هرم مضني - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

هرم مضني

هيام فؤاد ضمرة

  نشر في 08 أبريل 2020 .

هرم مضني

...هيام فؤاد ضمرة...


وحيداً يجلس على شرفة الحياة، يرقب الشمس في مُتغيرات مَجلسِها وما يمورُ أسفلها من صخب، ولحركةٍ آدمية تنبضُ حياة، تصارعه الأفكار، تأخذه تارات كثيرة للخلف البعيد، وتعيده لماما لينسج ثوب نهاره من رؤى الجديد، فقد باتت حياته مشاهداً معادة، تكرارها يجرح كيانه، يلتقطها من أزل عمره الذي مضى، آخذا معه بريق النبض العتيد.

يجلس حزينا اليوم وقد وافاه خبر وفاة آخر أصدقائه، وونيسه في دنيا لم تعد في لجة المتغيرات تتعرف وجهيهما، الصدمة عظيمة لكنه يتعجب من نفسه أليس متوقعا رحيل واحد منهما، سيعد نفسه لحضور الجنازة، تنتابه رؤى تتلمس الزمن القريب، ويلهث متعباً خلف ذاكرته التي أعياها المشيب، لا يتنكر لحظه في عمره الذي قارب كثيرا على حافة رحيل يتعزز، لكنه ينكر على الموت الذي استعجل اختطاف كل أفراد أسرته وأصدقائه المقربين مبكرا، ليتركه في صحراء وحدته الجافة، يعاني تشقق معيشته، يغرز أصابعه في شقوق ذاكرته علها تساقي روحه فترد فيها رطوبة الماضي السارية بأروقة الحنين، وحيداً يتقلب على جمر الانتظار، يسائل الموت الذي يمر بالجوار ليختطف أحبته واحداً تلو الآخر..

"أما آن لك أن تتذكرني، ها أنا أجلس على المفارق بالموقع الظاهر بكل وضوح، لأتيح لك رؤيتي، فلما يا موت تزيح عني نظراتك وكأنك تشمئز مني؟"

يتحسس كوب الشاي على حافة الشرفة، ما زال فيه بعض دفئ، تخرج يده عن مكانها، تغافله، يتحسس دفئ وجه وحيدته لبنى، ذات الملامح الرقيقة التي ورثتها عن والدتها

"كم أعشق ابتسامة تعودين بها إليّ من المدرسة وكفيك الصغيرة تنفتح عن قطع الحلوى التي تخصيني ووالدتك بها من مقصف المدرسة، فتأكلي منها جزءا وتحتفظي بالجزء المتبقي لتطعمينا اياها بفرح.. يا لك من طفلة رؤوفة محبة ومحبوبة.. أشتاق إليك أيتها الشقية"

انحدرت بضع دمعات اتبعها بشهقة نارية قوية جرفت جدران جوفه.

"لقد اختطفك الموت من أحداقنا أيتها الغالية وكنت أختزن لك حلماً كبيراً أهيؤك له، تربص بك بالأقسى ألما، حين انقلبت شاحنة بحمولتها فوق زهرات يانعات ثلاثة كنتِ إحداهن"

ليمر من أمامه طيف زاهر إبنه الوحيد، لقد اكتفى وزوجه بالطفلين نصيباً طالما منحهما الله الولد والبنت، ولم يدريا أن الموت المبكر كان لهما بالمرصاد بفجيعة قاسية، كان يتهيأ وزوجته للسفر إلى ألمانيا لحضور حفل تخرج زاهر بالطب بتخصص جراحة العظام بتقدير متقدم، ولم يدريا أن الموت سيسبقهما إليه قبل حفل التخرج، ليذهبا إليه لا ليحضرا احتفالية تخرجه، وإنما ليودعاه وهو في النزع الأخير ويعودا به جثة هامدة في صندوق خشبي خاوي من الحياة، ولتدخل زوجته في حالة انهيار مزر وكآبة تخترق وعيها وحسها إلى أن تخرج من الحياة في استسلام تام للموت الذي جاء ملبياً.

سار مع كل مراسم دفن صديقه وهو محني الظهر يجرُّ خطواته بتثاقل مُضني ساهِمْ الفكر يغلبه الصمت، تعتريه أحوال من فقد الإحساس كلياً بمن حوله.. أبناء الفقيد أبدوا اهتماماً واضحاً به لصلته القوية بوالدهم، ورغم ذلك أصابته حالة بلادة عجيبة يستجيب لهم إما بحركة عينيه أو بيده الجافة المعروقة، وكأن الدمع الذي كان اعتراه صباحا هو مجرد شطحة مشاعر أغلقت فوهة محبسها ليجف نبعها، ظل ساعات طوال يغرس نظراته بالأرض لا يتحرك إلا لماما، وحين اقترب منه ابن المتوفي ليقدم له طبقاً من طعام، رفع إليه نظرات جافة جفاف حلقه، ثم أغمضهما وظلال ابتسامة ترتسم على مُحياه، قبل أن ينكفئ على وجهه ويد ابن الفقيد تتلقفه.هره 


  • 4

  • hiyam damra
    عضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية
   نشر في 08 أبريل 2020 .

التعليقات

hiyam damra منذ 4 سنة
هلا بحضورك أبوبحر على قصتنا وإعجابكم بمادة عرضها
1
أبوبحر منذ 4 سنة
يا الله ياجمال ومشاعر كاتب هالنص، فعلاً ليس للحياة طعم دون الأحبة والأصدقاء.
أبدعتي وأحسنتِ وصف المشاعر.
1
Dallash منذ 4 سنة
احسنت اخت هيام
2
hiyam damra
كل الشكر والامتنان لمروركم وتوقيعكم وأنتم للإبداع أيقونة عزف
Dallash
كل الاحترام والشكر والتقدير...الشكر موصول لحضرتك أستاذتنا الكريمة حفظك الله ورعاك

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا