ينظّرون ويُقعّدون على أن الكثرة لا تعني الحقّ، فإذا جئتهم بشيء مخالف لما هم عليه بدليل واضح وبرهان صارخ، تنكّروا لمبادئهم ودعوتهم، (عليك بالأمر العتيق، وما عليه السواد الأعظم)، هكذا يكون جوابهم بعد أن صمّوا آذاننا وأزعجوا عقولنا بأثر ابن مسعود رضيّ الله عنه: " لا تكونوا إمّعة"، فإن أراد أحدهم أن يكون غير ذلك، وقرّر البحث والتفتيش، وحاول السّير نحو الحق، سائلاً ربّ الخلق، وتعبّد في محراب الحقيقة، معلناً: "البحث شريعته"، اعترضوا عليه ونسفوا تلك القصص الجميلة التي حكوها له عن الشجاعة العلمية لفلان وعلان، وعلى أن رجال هذا الدّين "يفضلون أن يكونوا أذناباً في الحق، على أن يكونوا رؤوساً في الباطل"، مع العلم أن هذا هو الصواب وهو منهج العقلاء ومسلك الفطناء، لحاجة في نفسي أخذت بالنصيحة، وفكّرت في العمل على التوجيهات السديدة، فعزمت على البحث والتنقيب، حتى أفحص ما لديَّ من معلومات، فإما أصححها أو أُثبّتها، عند أوّل خطوة ونشر أوّل تصحيح في مسألة بسيطة جداً، رُميت عن قوس واحدة، بياناتٌ تكتب، إشاعات تنشر، أكاذيب تذاع وتُصنع، عجيبٌ جداً ..
أعلم أنّي تأخّرت كثيراً عن العودة لركب الباحثين، بعدما كنت فيه، لكن "عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم"، و "ربّ ضارّة نافعة"، فكلّما طالت المدّة زادت المعرفة بحقائق الأصول واكتشاف الثوابت والفروع، مرّة كنتُ صغيراً سمعتُ أحد (المشايخ) يقول: "الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وأن تنكر ما كنت تعرف"، يعني بصراحة ودون تأويل: لا تفكّر في مراجعة شيء، ما لُقِّنته إلزمه وإلا فأنت من الضالين، هنا مربط الفرس، هنا تتمّ البرمجة وغسل الدّماغ، وتنشئة عقل روائي محض، يعتمد على التسليم لقول هذا وأثر ذاك، وبعد أن يثبت هذا عندك، تبدأ بقراءة كتب مكانة العلماء وضرورة احترام مكانتهم، قد يخالط الشّك عند قراءتك فتظن أن الكاتب يتحدّث عن الذّات الإلهية المقدسة وليس عن غيرها، لكن تدافع هذا الإحساس وتصارعه لخلفية صارت عندك، فترضى بهذا وتقبله، لتصبح بعد ذلك داعيةً إليه، احترام العلماء واجب بلا شكّ، لكن القداسة لله، والعصمة للأنبياء والعلماء بشرٌ مثلنا يخطئون ويصيبون، وممّا لاحظت في أغلبهم أنهم يرقعون لبعضهم، ممّا وقفت عليه في كتب التراجم أنه أحدهم كان يستهزأ بكتاب الله عزّ وجل، فأتي صاحب الكتاب وهو إمام رحمه الله تعالى بكل برودة ليصف هذه الفعلة الشنعاء بـ "الدعابة"، أنت بفطرتك السليمة –لو بقيت لك- لا تقبل هذا فتنتقد وتستنكر، فتُلقَّى بالإتهامات الجاهزة والأحكام الجائرة، هذا مثال فقط، وإلا فالأمر أعظم من أن يوصف .
لا أدري لم يفعلون هذا، لكن الذي (أنا) متيقّنٌ منه أنهم يفعلونه ليحافظوا على مكانتهم (المقدسة) ونجعلهم كأصنام تعبد من دون الله، خذ أي تلميذ لشيخ وسله هل شيخه معصوم؟ سيجيب بالنّفي بكلّ ثقة، سله عن أخطاء شيخه بعدها، لن يجيبك وسيخّر بين يديك، هذا مسكين ضحية فقط، فاهه ينطق بأن لا عصمة لأحد لكنه واقع في ذلك، يصيح أحدهم ويولول على أنه: "طويلب علم" فقط، ولو ناداه أحد بغير "شيخنا" غضب وضجر، وحتى تكتمل المسرحية القبيحة والتمثيلية السّيئة يكتبون ويحاضرون في ذم التّعصب والتقديس، وكأنهم لا علاقة لهم بهذا، وهم من بثّه في الشّباب وأطّرهم عليه، صدقت العرب حين قالت: "رمتني بدائها وانسلّت"، هذا حال بعضهم، أما البعض الآخر يصرح بأن "التقديس" مبدأ من مبادئ منهجه، وعلى أن من قال لشيخه: "لم؟ يُخاف عليه من سوء الخاتمة" .. لا ينقضي عجبي !
تدور الدنيا دورتها ويكون لهؤلاء (الشيوخ) مراجعات ولا يستطيعون الإعلان عنها، خشية أتباع لهم أقلام مسمومة، وألسنة خبيثة، لكن: "الجزاء من جنس العمل"، علّموهم أن ما هم فيه هو الحق المطلق، وما عداه شرٌ يُحذر، فليذوقوا ممّا صنعت أيديهم، وانشأت ألسنتهم، نصيحة أيها (الشيخ) وأرجو أن تقبلها: تربيتك لتلامذتك بإحترام أهل العلم رغم الخلاف ستجني ثمرة تجنيها أنت ابتداءاً، فقد يختلفون معك يوماً ويجلدونك بألسنة حداد وأقلام فاحشات .
وبسبب هذا للأسف، أخذنا كثيراً من الأحكام في ديننا بالتّسليم دون أدنى بحث فيها، واعتقدنا أنها الصواب، حتّى ترسخت في أذهاننا وحفظت في ذاكرتنا على أنها الحقيقة المطلقة، فإذا جاء ما ينقضها بدليل صريح وبيان واضح رفضناها ولم نسمعها ابتداءً، وهذا غير مقبول وسليم، كم كنت غبياً عندما أوهمت نفسي أني طالب العلم حقاً، بينما في الحقيقة كنت آلة برمجت لتعيد ما سبق قوله وتأليفه، حقيقةً أغلب من ينسبون اليوم إلى العلم ما هم إلا ظواهر صوتية تعيد ما كتبه أصحاب القرون السّابقة، ولا اجتهاد ولابحث، وإن فعل هذا أحد سيؤذى أيّما اذاية، ومن يرحمه سيرميه بـ : "تتبع الرّخص والشّذوذ" أو: "المراهقة الفكرية"، وهذا الأخيرُ عندهم مذمّة، وهو عند ذوي العقول والألباب منقبة، فهذا يجعل منهم أشخاصاً ذو تجارب وعلم بحقائق الأمور، وليسوا كببغاء يعيد ما سمعه .
قناعتي تقول: مراجعة المذهب ونقد المنهج مطلب حسنٌ مشهور، فإمّا كفٌّ وقعود، أو إقدامٌ وثبوت