في غرفة صغيرة بستائر مهترئة وأرضية متشققة في مستشفىً حكومي, رقدَتْ فاطمة ذات التسعة والعشرون عاما على السرير وهي لا تعي ما يدور حولها, فقد خرجتْ من غرفة العمليات منذ قليل وما زالتْ تحت تأثير المخدّر (البنج).
كانت غرفة الدرجة الثالثة التي تشارَكَتْها فاطمة مع فتاة أخرى تعجّ, بروائح مختلطة يصعبُ تحديدها. فمرّة تشمّ رائحة البيض المسلوق ومرّة تشمّ رائحة الموز الذابل. تارة تشمّ رائحة الرطوبة التي ملأتْ الجدران, وتارة أخرى تشمّ رائحة المستشفيات المألوفة التي تدلّ على التعقيم والنظافة مصحوبة برائحة السجائر الملتصقة بملابس الزوّار, ورائحة تلك العطور المُرَكّزة التي تُباع في المحطات والأسواق الشعبية, والتي يُعبّئها البائع لك في زجاجة صغيرة ويُضيف لها الماء لتخفيفها.
إلى جانب سرير فاطمة, جلسَتْ والدتُها المُسنّة وهي تُمسكُ مُصحفا بِمُجلّدٍ أخضر وقد أخذّتْ تقرأ منه سورة ياسين. إنّها مُقتنعة تماما بأنّ العملية التجميليّة التي أجرَتْها ابنَتَها لأنفها, ما هي إلا سخافة من سخافات شابات هذا الجيل المُدلّل. ورغم ذهابها مع فاطمة إلى الطبيب وتأكيد الأخير أمامها بأنّ مشاكل التنفس لدى فاطمة ناجمة عن انكسار عظمة في أنفها ولا بُدّ من إجراء العملية التجميلية في أسرع وقت, حتى تستطيع ابنتها التنفس بشكل أفضل. إلا أنّ الوالدة ما زالت ترى بأنّ جميع عمليات التجميل هي نَصْبٌ صريح على اللّحى وامتصاص لدم الناس في عزّ النهار وعلى الملأ, مُستَنِدةً في رأيها هذا على (أيام زمان). فأيام زمان حيثُ عاشَتْ هي وعاشتْ والدتُها وجدّتُها, لم يكن هناك عمليات تجميل لأنّه وباختصار, كان الجمال هو العنصر الطاغي على نساء الزمن الجميل الغابر. وهذا بالطبع مالم تقتنع به فاطمة وهي تنظر في المرآة إلى ما ورَثَتْهُ من أمها عن طريق جينات الزمن الجميل, مِن عيْنَيْن صغيرتين برموشٍ متفرقة وقصيرة, وأنفٍ معقوف, وأسنانٍ متمردّة لم تَصْطفّ بانتظام, بل فضّلتْ أن تتزاحم في فمِها فوق بعضها البعض. وجِسمٍ مُمتلىء جدا, يجعلُها تدور حائرة بين المحلات وهي تبحثُ عن قياس بنطال يلائمها!
لطالما رجَتْ والدتها وهي في سنّ المراهقة بأنْ تسمح لها بتركيبِ تقويمٍ لأسنانها ليُصبحوا أجمل وتستطيع الابتسام بِثقة كباقي صديقاتها. وكم رجتْ والدتها وهي في الجامعة بأنْ تُعطيها مبلغا بسيطا من المال في كلّ شهر لترتاد النادي الرياضي وتخسر الوزن الزائد. أخبَرَتْها بأنّها لن تجدَ من يتزوّجها بهذا الجِسم, فموضة هذا العصر هي النحافة وهي تحبّ اتباع الموضة كباقي الفتيات. أخبَرَتْها بأنّهم يملكون النقود. فرغمَ وفاة والدها وهي ما زالتْ تتعلم المشي, إلّا أنّ إخوتَها الذكور الأربعة المُقيمين في السعودية وقطر, يُرسلون لها ولأمّها ما يفيض عن حاجتهم كل شهر. هذا غير العطور والبخور والملابس التي تصلهم كلّ فترة بالبريد أو مع أحد الأصدقاء. أخبَرتْها بأنّها تودّ العمل في بوتيك نسائي بدوام جزئي بعد الجامعة مع صديقتها سحر, لأنها تريد ادّخار المال لدفع رسوم النادي الرياضي وإصلاح شعرها عند الكوافيرة أم نوال –كوافيرة الحارة المشهورة-.
وماذا كانت إجابة الوالدة لكلّ هذا؟!
إنها مُكوّنة من كلمتين فقط....
" دلع بنات "
لن تُركبّي ذلك التقويم المُضحك الذي سيمنَعُكِ من الأكل والشرب, ثم تتحولين إلى زومبي مع الأيام. إنّ الرجال لا يحبون المرأة الزومبي التي تخلو من الدهون! هذا كلّه دلع بنات..
لن أسمح لك بالذهاب إلى النادي الرياضي. إنّ النساء هناك شبه عاريات, وسيتفحصْنَكِ بِشَرَه, ثمّ يُخبِرنَ صديقاتهنَ وإخوانهنَ عن جسمك. أستغفرُ الله من دلع البنات هذا!
لا, لن أسمح لكِ بالعمل. ماذا سيقول أعمامك وأخوالك. مات الوالد وتغرّبَ الإخوان ففَلَتَتْ البِنت وصارت تعمل في البوتيكات, تهرُجُ مع هذا ويغمزُها هذاك... ثمّ إنني أخبرتُكِ ألف مرّة بأني لا أرتاح لصديقتك سحر ولا أحبّها. إنها مُنفتِحة أكثر من اللازم ومرِحة على الدوام, فكأنّها نسيَت الآخرة والحساب. ياربي, ارحمني من دلع البنات الكريه هذا!
أعوذ بالله من غضب الله! صالون على آخر الزمن!!
هذا ما كان ينقُصًكِ يا حاجة رئيفة. ابنتي الوحيدة التي بذَلْتُ عُمري لها تذهبُ إلى مكان مليء بالمعاصي وقلة الأدب. أستغفر الله... أستغفر الله. كيف أسمح لكِ بأنْ تذهبي إلى مكان يعجّ برائحة السجائر والألفاظ البذيئة. إنهنّ ينتِفْنَ الحواجب هناك. ألا تعلمين أنّ الله لعنَ النامصة والمُتنَمّصة!!! لا لقد طفح الكيْل وسأكلّم أخاكِ عبد الله ليَجِدَ صِرفةً معك!
دلع بنات ماسخ!
يدخلُ عبد الله الغرفة وهو يحملُ في يده زجاجة ماء يُقدّمها لوالدته. تُغلِقُ الوالدة المُصحف وتضعُهُ جانبا على الطاولة. تتناول الزجاجة من ابنها وتشرعُ في فتحها.
"ألم تستَيْقِظ بعد؟"
" بسم الله" .. تشربُ جرعة من الماء البارد, ثمّ تقول: "لا.. لكنّها تتأوّه بين الحين والآخر. كأنّها تُريد قول شيء!"
لم يكُن هناك من كُرسيّ إضافيّ, فظلّ عبد الله واقفا وهو يتأملّ أخته التي قاربت على الثلاثين ولم يأتِ نصيبها بعد.
قال: "أتعرفين يا أمي. سمِعتُ مرّة أن البنج يجعل الإنسان يقول أسراره المدفونة داخله."
فتَحَتْ الحاجة رئيفة عيْنَيْها باندهاش واضح وقالت: "أتمنى أن يحدث هذا الآن لأعرف إن كان هناك من شابّ في حياتها."
عقدَ عبد الله حاجِبَيْه وقال: "كفى يا أمي. إنّ فاطمة فتاة خلوقة ومُهذبة. إنّك بِحرصك الشديد عليها تضغطين على أعصابها. لا بُدّ من التساهل معها والثقة بها وهي في هذه السن, إنّها لم تَعُد طفلة. انظري لها جيّدا... مهندسة أشرَفَتْ على الثلاثين, لا زوج, لا عمل, لا هواية, لا أصدقاء, ولا شيء! هذا كثير يا أمي.."
ردّت بِثِقة: "اسكُت يا عبد الله. أنتَ لا تعرف شيئا عن تربية البنات. إنّ الله رزقك بخمسة أولاد, وزوجتُك الأخرى لا أفرّقُها عن الذكور كثيرا بضخامتها وصوتها الرّجولي. لقد خرجَ على لساني شَعر وأنا أنصحُك بابنة خالك وردة. لكنّك أصرَرْتَ على عنادِك. والنتيجة هي أولاد كالتّيوس."
قرّر عبد الله أن لا يردّ. فقد أيْقن وهو في سنّ الخامسة والأربعين الآن, أنّه لا جدوى من نقاش هذه العجوز, فهي على استعداد أنْ تُجادل وأنْ تملؤك بالإحباطات حتى تفقَعُكَ كبالون, بينما تبقى هي ثابتة وشامخة كالحديد.
لا عجَبَ أنّ والدَه تُوفيّ في عُمرٍ مبكّرٍ وهو لم يتجاوز الخامسة والخمسين. إنّ مرارة الرّجل لم تحتمل أكثر, فانفَجَرَتْ!
أخذَ صوتُ فاطمة الذي خرج هامساً يُكوّن كلماتٍ واضحة لأمّها وأخيها:
"لا..لا.. لا أريد أن أبقى معها طوال عمري.. لا ..لا."
"سأتزوّج.. سأصبِحُ أمّاً.. سأكمِلُ الماجستير.. سأصبِحُ رَشيقة.. لا.. لا. سأصلِحُ أسناني وشَعرِي. سيُصبِح أنفي أجمل.. أجمل من أنف سحر.."
دَمَعَتْ عينا عبد الله تأثّرا بحالة أخته, إنّها تعيش حسرةً كبيرة وهي في أحلى سنين شبابها!
قال بِحُزن: "مسكينة يا أختي, قلبي عليكِ حزين!"
وضع يده على كتِف أمّه مُواسيا ثمّ نظَرَ إلى عَيْنَيْها متوّقعاً أن يرى الدمع الغزير يسيل على خدّيْها.
كان وجهها ناشفا وعيناها جافتّان كالصّحراء الكُبرى.
قالت: "الحمد لله.. بما أنّها لم تُدنّس شرفَ العائلة بتعرّفها على شاب, فهي بألف خير. هذا كلّه دلع بناتٍ لا أكثر."
بنبرةٍ غاضبة أجاب:
"هل هذا هو كلّ ما يهمّك؟! ألا ترَيْنَ أنّها تموت من الدّاخل..."
-
نور الكنج...