حافلة . . - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

حافلة . .

أكره الزكام والذباب، وصوت جدتي وهي تصرخ علينا عندما كنا أطفالاً، فليتغمدها الله برحمته. تقف الحافلة أصعد إليها متثاقلاً، لأول مرة أصعد إلى الحافلة ويكون هناك مقاعد فارغة، اختار كرسياً أمام النافذة، أجرب منذ زمن بعيد شعور الجلوس بالحافلة. فعادة تكون الباصات مكتظة بالركاب في وقت خروجي من العمل، لكن في هذه الساعة، الساعة الحادية عشر تقريباً لم يكن هناك ازدحام يذكر.

  نشر في 15 أكتوبر 2018 .

في ذلك اليوم التشريني حيث كانت الأمطار تهطل بغزراة. كنت أقف عند موقف الحافلات أراقب حركة المرور المكتظة، وبدوري انتظر مع الواقفين قدوم الحافلة. 

بماذا كنت أشعر يا ترى في تلك اللحظة وأنا أراقب العالم من حولي بلا شغف. لم أكن أشعر بشيء، لا السعادة ولا الحزن ولا حتى أي شيء. ما الذي جعلك تفكر في هذه اللحظة بالذات بما تشعر به، هل هي كآبة الشتاء أم مرضك الذي جعلك تخرج اليوم من دوامك في وقت مبكر. 

أكره الزكام والذباب، وصوت جدتي وهي تصرخ علينا عندما كنا أطفالاً، فليتغمدها الله برحمته. تقف الحافلة أصعد إليها متثاقلاً، لأول مرة أصعد إلى الحافلة ويكون هناك مقاعد فارغة، اختار كرسياً أمام النافذة، أجرب منذ زمن بعيد شعور الجلوس بالحافلة. فعادة تكون الباصات مكتظة بالركاب في وقت خروجي من العمل، لكن في هذه الساعة، الساعة الحادية عشر تقريباً لم يكن هناك ازدحام يذكر.

أحاول عبثاً أن أجد منديلاً في جيب معطفي، أشعر أن حرارة جسدي بدأت ترتفع، يقولون أن شتاء هذا العام سيكون الأبرد منذ قرن مضى. عبثاً أحاول تشتيت أفكاري، هناك شيء في داخلي يسألني إن كنت سعيداً، أجيبه بابتسامة لكنني لست تعيساً.

تتوقف الحافلة عند إشارة المرور، هناك رجل يتعارك مع الحمار الذي يجر عربته على الرصيف، يضرب الحمار بقسوة على ظهره. أشعر بألم في رقبتي .. تسير الحافلة .. تتوقف الحافلة .. تسير الحافلة .. 

تصعد امرأة وزوجها ومعهما طفل لم يكف عن البكاء للحظة، الزوجة تتكلم والزوج صامت، يرن هاتف الزوج .. يتحدث عبر الهاتف وروجته ما تزال تتحدث معه. ينزل الزوجان في المحطة التالية. يصعد شاب وهو يحمل بيده دفاتر وكتب .. تكتظ الحافلة بالركاب .. 

أشعر بالدوار، صوت المطر وهو يطرق على نوافذ الحافلة مع رائحة الوقود والعطورات المختلفة. أكاد أتقيأ .. لقد هرمت يا هذا، لكنك مازلت تحاول عبثاً أن تقنع نفسك بأنك ما تزال شاباً. الجميع تخلوا عنك .. حتى زوجتك هجرتك، لم تتحمل ترددك، كذبك .. لكنني لست منافقاً ولا أستطيع أن أكون، لقد اعترفت لها بكل برود بأنني لا أحبها لكنها زوجتي وأقدر هذا الشيء، أرادت مني أن أمثل دور الزوج الرومانسي كما كان يدعي أزواج أصدقائها، رغم أنني وبالوثائق والدلائل قدمت لها تقريراً مفصلاً عن خياناتهم. لكنها لم تكن تكترث .. كانت تريد مني أن أكون مزيفاً، أن أخونها لكن أن أبدي نفسي الرجل الهائم بعشقها أمام صديقاتها. 

لم أكن عالماً في العطور، وذوقي في الورد لم يكن مبهجاً وليس كذلك في اختيار الأغاني لكنني رغم ذلك كنت أحب أن أسعدها. لا يهم .. 

إن أولادي لابد سيدركون أنني أحبهم رغم أنني لا أزورهم كثيراً، سأخبرهم ذات يوم بالسبب الحقيقي، بأنني أكره أن أجتمع بزوج والدتهم المتملق، العميل .. كاذب .. الجميع يرتقي عندما يكذب. 

لكنني الآن أشعر بالألم في جسدي، أشعر بأن حرارتي ارتفعت كثيراً، إن جل ما أريده هو أن أصل إلى منزلي، أن أستلقي في سريري. أن أطفئ صوت عقلي، وصوت المذيعة التي تتحدث عبر المذياع في الحافلة. صوتها يشبه صوت مديرة مدرستي الابتدائية " مدام عفاف". صوتها لئيم رغم أنها تدعي الرقة والحنية، لكنها كانت تتلذذ بمعاقبة التلاميذ، كانت تنتظر أي حجة لتبث سمومها علينا .. 

أيييه .. لم تكن على الأقل بشرور الاستاذ "عماد" ذلك الاستاذ الذي كان سبباً في كوني أنا اليوم، أنا الإنسان الفاشل، الذي يحتضر في الحافلة، يحتضر بين أكتاف الطلبة، ومعاطف الموظفين، يحتضر على صوت مذيعة ملعونة .. قسم الأبراج، أكره هذا القسم، أكره التوقعات .. 

"أنزلني هنا من فضلك .. أيها السائق .. انزلني أرجوك .. ". . .

كنت أصرخ لكن الحافلة لم تكن تتوقف .. 

"انزلني هنا .."..

وكانت الحافلة تستمر بالسير .. 

"انزلني ".. 

وكانت الحافلة تشد رحالها والمطر ما يزال يضرب على النوافذ، وضجة الركاب، وروائحهم المختلفة، والمذيعة .. 

"توقف .. ". 

"انزلني .. " .. 

لكنه لم يتوقف .. لكن الضجيج توقف. كل شيء توقف. . لكن الحافلة لم تكن تتوقف!


  • 5

   نشر في 15 أكتوبر 2018 .

التعليقات

اعجبتني كل كلمة خطتها اناملك ..قصص شيقة من واقعنا البائس ..أبدعت
0
Rim atassi
كل الشكر لمرورك وكلماتك الرائعة
نور جاسم منذ 6 سنة
جميلة جدا
0
Rim atassi
الاجمل مرورك عزيزتي

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا