أَذكُر في فترات المدارس والجامعات عندما كان القادة المسئولين ينظمون رحلات اجتماعية لأفراد تلك المجتمعات في ضواحي هادئة، ودائما ما كانت تتضمن برامج تلك الرحلات مسابقات للتَسامُر، والتي كنا نُقَسَّم بها إلى عدة فِرَق متنافسة على بطولة وهمية بلا جوائز لرابحها. وأَذكُر كَمّْ إحساسنا بالانتماء لفريقنا ذاك والذي لم نختره من الأساس بل اُختير لنا عشوائيا وعَلِمناه للتو، بل وتَعدى الأمر دومًا عن مجرد انتماء وصولًا إلى تَعصُّب وتَوتُّر وربما تَشاجُّر في بعض الأحيان، وأَذكُر حتى خسارة أصدقاء لصداقة بعضهم البعض بسبب مباريات في إطار تلك المسابقات الهزلية والتي صُمِمَت نظريا فقط للاستمتاع بالوقت والمزاح وليس إلا، ولكن ما أن كانت تبدأ فعاليات تلك المسابقات على أرض الواقع حتى كانت تَتَكشَّف طبيعة النفس البشرية.
فما أن توضع “ذواتنا” في فريق ينافسه فريقٌ يتكون من “الآخر”، حتى تنفجر غرائز النرجسية بداخلنا، ولو كانت الأقدار قد وضعتنا في ذاك الفريق الآخر والذي نرفضه قطعيا من موقعنا الحالي، فمن المؤكد عندئذٍ أننا كنا سنراه الفريق الأفضل والأصلح لكي ندافع عن لوائه ونَتعصَّب له، طالما أنه يحوي أنفسنا النفيسة بداخله، ذلك لأن حب الفريق هو من حب الذات.
وليس غريبًا ما سبق، فكذلك هي الحياة أيضًا ولكن على نطاق أوسع، فنحن نُولَد في تبعيات متوارثة لفِرَق كبيرة وكثيرة في الحياة لم نختر أيًا منها، فِرَق الوطن واللون والعِرْق والدين والجنس والطبقة الاجتماعية والمادية، وتُسَجَّل تبعياتنا المتوارثة تلك منذ مولدنا بحبر على أوراق بطاقات تعريفنا وجوازات سفرنا، فتصبح هَويَّاتنا إلى الأبد، ونُقيِّم بها بعضنا البعض على أساسها، فإما معنا أو علينا، وإمَّا في فريقنا ذاك أو منافسًا له.
ورغم أننا لم نختر فِرَقنا تلك من الأساس بل وُجِدنا عليها، إلا أننا نراها الأفضل والأجدر والأصلح والأصح من مماثليها الآخرين، ليس لأنها كذلك ولكن بالطبع فقط لكَوْن ذواتنا تتوسطها.
وأمَّا باقي الفِرَق فنراهم وكأنهم ممثلين ثانويين يقومون بأدوار الشر في مسلسل الحياة اليومي والذي نقوم نحن ومن يشابهنا ببطولته حصريًا تمثيلًا للخير، ونراهم وكأنهم قد خُلِقوا فقط لنستطيع تكوين فعاليات لمباريات كلاسيكية مُشوِّقة بين الخير والشر، نتيجتها محتومة بفوزنا الكاسح عليهم في نهاية الأمر.
فذلك الشخص الأناني وهو نحن، يُطلِق العَنان لغريزة حب الذات وبالتالي حب الجماعة وشيطنة الآخر دون الاحساس به.
وذاك الشخص محدود الذكاء والبصيرة والمُتمثِّل فينا، ينظر للمباراة بعين فريقه فيراه الأفضل والأحق والأقرب للفوز حتى وإن لم يكن كذلك.
أمَّا الإنسان النقي فهو من يتواضع ويَحكُم حبُّه الغريزي لذاته ولجماعته ويخرج عنه، فيحب جميع البشر سواءً بلا حسابات عنصرية، وينتمي فقط للإنسانية.
وأمَّا الإنسان الناضج فهو من يترك مركزه في فريقه وينسحب من المباراة ويخرج من الملعب ليجلس في المدرجات، فيشاهد المباراة من الأعلى بزاوية رؤية واسعة، بدلا من إطار الرؤية الضيق لحب الذات من موقعه السابق، ويَحكُم في الأمور بحيادية.
ولنتذكر أننا جميعا قد نشجع فِرَقًا مختلفة فيما بيننا، فيفرح كل منا على حدة بهدف سجله فريقه في مرمى الآخر، لكن ما نتفق عليه جميعًا في نفس اللحظة وما تَدْمَع له أعيننا جميعا بلا استثناء هو ذلك المشهد الذي تتجلي به الروح الرياضية، عندما يخرج لاعب للحظات عن الأجواء التنافسية المُتوَتِّرة للمباراة ليذهب “لمنافسه” والذي سقط مصابا، فيطمئن عليه ويساعده على النهوض ويعانقه مبتسمًا، وكأنه يستفيق للحظات ويدرك الحقيقة الغائبة، حقيقة انه ربما قد تضعنا الظروف وجها لوجه في اطار "المنافسة"، لكننا في حقيقة الامر لسنا سوي اخوة، فَرَّقتهم الاقدار.
-
أمير هانىطبيب نفسية وعصبية وكاتب هاوى، اؤمن بالحرية والمساواة والتعددية وحقوق الانسان.