وَقَفَ أمام المرآةِ في غرفة نومه يَمشِطُ شَعْره بعد أن فرغ من ارتداء ملابسه استعدادًا للذهاب إلى عمله، مُكَرِّرًا – منذ أن استيقظ هذا الصباح - ما اعتاد أن يقوم بعمله بنفس الترتيب كل يومٍ منذ أعوامٍ ليست بالقليلة في مشهدٍ يوميٍّ مُتكرِّرٍ؛ يبدأ باستيقاظه بعد عشرات المرات التي رنَّ فيها منبه هاتفه ليقوم بعدها مُتأخِّرًا مترنِّحًا مُتخبِّطًا مُقاوِمًا التعثر أكثر من مرةٍ وهو في طريقه نحو الحمام لغسل وجهه وأسنانه ثم يتوضأ ويصلي الصبح ويرتدي ملابسه ويهرول إلى الشارع كأن شياطين العالم تجري وراءه ليسير في نفس الشوارع ويركب نفس المواصلات ويشاهد نفس الوجوه العابسة في الأماكن ذاتها، مرورًا بذهابه لنفس العمل وتناوله نفس الإفطار ومقابلته نفس الزملاء وسماعه نفس الكلام من نفس المدير، وانتهاءً برحلة عودته – التي تكون صورةً معكوسةً من رحلة الذهاب مع كثيرٍ من الزحام هذه المرة - إلى منزله آخر اليوم مُنهَكًا مُتعَبًا ليتناول وجبة الغداء ويجلس قليلاً أمام شاشة التلفاز مع زوجته وأولاده قبل أن يدخل لينام استعدادًا ليومٍ جديدٍ يستيقظ فيه صباحًا لتتكرر أحداثه الرئيسة في مللٍ ورتابةٍ مع بعض الاختلافات الطفيفة في التفاصيل الصغيرة.
راحت أحداث يومه المتكررة تتراصّ أمامه في المرآة كأنها مشهدٌ سنيمائيٌ مُسَجَّلٌ، بينما راح يَمْشِطُ شعره مُصْدِرًا صفيرًا مميَّزًا للحنٍ مشهورٍ محاولاً أن يستفيق بالقَدْر الكافي قبل نزوله مُسرعًا إلى عمله .. كاد أن يترك مكانه أمام المرآة لولا أن رأى شيئًا مختلِفًا لم يَرَه من قبل، لاحظ لمعانه في انعكاس ضوء الغرفة عليه .. شيءٌ لم يكن قد انتبه لوجوده حتى صباح اليوم السابق حيث كانت آخر مرةٍ وقف فيها أمام المرآة .. شيءٌ نَبَتَ فجأةً في جانب رأسه وسط شعره الأسود الفاحم .. كانت شعْرةً بيضاءَ !.. كان ظهورها المفاجئ يُشْبه شخصًا وَجَدَ نفسه فجأةً وسط صحراءٍ قاحلةٍ .. شهابٌ ثاقبٌ ظهر فجأةً في سماءِ ليلةٍ لا قمر فيها .. لسانُ رَعْدٍ بَرَقَ فجأةً ليشق صفاء السماء في ثانيةٍ فأصاب قلبه باختلاجةٍ مخيفةٍ.
سأل نفسه: متى ابيضَّت هذه الشعرة؟! لقد كان يتباهى دائمًا بسواد شعره وخُلُوِّه من أي شعْرةٍ بيضاءَ مقارنةً بأقرانه الذين يماثلونه في العُمر، وقد غزا الشَّيْبُ شعورهم جميعًا منذ سنوات.
احتاج لعدة ثوانيَ كي يستوعب ذلك الحدث الجَلَل .. لم يكن يتصور أن يأتي ذلك اليوم الذي يرى فيه الشَّيْب يحبو أولى خطواته في شعره بهذه السرعة .. وهذه الرجفة .. وهذه القسوة.
راح يُقَرِّبُ رأسه من المرآة أكثر وهو يتحسس خصلات شَعْره بأنامله المرتعشة خوفًا من أن يكون هناك عدة شعراتٍ بيضاءَ أُخَر ربما لم ينتبه لوجودها، ولمَّا لم يَجِدُ فقط إلا هذه الشعرة، أحضر من فوره مِقصًّا انتزع به تلك الشَعْرة الدخيلة من مَنْبَتِها انتزاعًا، ثم تخلل شَعْرَ رأسه بأنامله مرةً أخيرةً ناظرًا في المرآة لكي يتأكد من عدم وجود أُخرياتٍ مُتَخَفِّياتٍ .. وعندما اطمأن، راح يعيد مَشْطَ شَعْرِهِ مُستَكمِلاً الصفير بشفتيه متظاهرًا بعدم الاهتمام .. لكن ذلك لم يستغرق سوى ثوانٍ معدوداتٍ توقف بعدها عن الصفير بينما خاطرٌ مُباغِتٌ يُلِحُّ على ذهنه بلا هوادةٍ: من قال أنه لن تظهر غدًا شَعْرةٌ بيضاءُ أخرى؟! .. هل تكون هذه الشَّعْرة بوابة دخوله لعالم الكُهُولة التي كان يظن أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا؟!
توقفتْ حركة يده عن المَشْطِ فوق رأسه وبدا كأن عجلة الزمن قد توقفت معها عن الدوران عندما بدأ عقله في استيعاب الحقيقة التي تغافل عنها طويلاً .. لقد كَبُرَ ولن تكون تلك الشَّعْرة البيضاء هي آخر الغازين .. فكما أن أوَّل الغيثِ قَطْرَةٌ وأوَّل الحُزن عَبْرَةٌ، فإن أوَّل الشَّيْب – لا بد – شَعْرَةٌ.
التعليقات
لغتك سليمة وفكرتك جميلة ومقال مرتب الأفكار بشكل احترافي مثير للإنتباه !!
بالمناسبة: إذا كنت من المتدبرين بـ(القرآن) فلا غرو، فمشرب كثير من فقراتك مستسقى منه .
ما شاء الله وبارك الله فيما خطته يداك .
افاق ادبيه اراها تلوح هنا في سلاسه الكتابه
وتراكيب المفردات
والزخم اللغوي البارز
فعلاً لن تكون اخر شعرهـ بل هي فقط البدايه
#تحياتي لقلمك الاسر