القاضي المزيف - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

القاضي المزيف

  نشر في 19 فبراير 2018  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

تنفتح ذاكرتي على سنة 1996 التي شاءت إرادة الله ان تجمعني فيها بدكالة ارض الآباء والاجداد وتحديدا مدينة سيدي بنور؛ عاصمة الإقليم الفلاحية ومفخرة تجار المواشي ومرتادي السوق الأسبوعي الضخم. كانت المجموعة التي اشتغل فيها كمدير تربوي قد أوكلت إلي تسيير أحد الفروع التي فتحتها كامتداد لمجموعتها المتخصصة في الإعلاميات والبرمجة. وكان المعهد يشغل كل طوابق العمارة بينما احتل محل لبيع العقاقير والصباغة "دروكري" أسفلها في ملكية "الحاج علي" الذي استحوذ على رخص بيع الكحول بالمدينة وبجارتها زاوية سيدي إسماعيل. على مشارف المدينة في اتجاه مراكش، يقبع دوار علي حيث يملك أراضي شاسعة وهو بذلك قارونها الذي لا ينازعه في ذلك منازع. لذلك، عمد الى بناء مسجد كبير وظف فيه عشرات الملايين ليصبح تحفة فنية لا يختلف اثنان في رونقها وجماليتها إلا أن هذه القيمة الفنية والامكانيات التقنية لم تكن لتصرف ساكنة الدوار عن مسجدهم القديم المتهالك الذي انهك جدرانه تعاقب الفصول واختلط طلائه بكل ما جادت به الرياح التي ترتطم بأسواره لتستريح هنيهات قبل ان تقرر الانطلاق الى حيث كان لها ان ترسو قبل ان تسلم روحها... لم يستطع الحاج علي ان يستقطب المصلين الى مسجده الذي أراده ان يكون فرشة صباغة لسمعته التي وسختها سنوات "السربيسة" وما نتج عنها من تضخم الأرصدة التي يراها اصغر أطفال الدوار حراما بل وبالا على البركة التي ظلت ترعى ساكنة الدوار تختلط بمقدراتهم فتربيها ليكفيهم قليلها وتطمئن نفوسهم وتسعد جوارحهم. أحس "السي علي" بلهيب ناري يحرق قلبه وبغيض وإهانة شديدين نفخت بمزامير الحقد في اذنيه فتداعى لها فؤاده وأقسم على ملئ المسجد بالمصلين؛ لذلك كان يجبر عمال "الدروكري" ونادلي الحانة وحراسها على حضور صلاة الجماعة في مسجد الدوار.

لم يكن في المدينة ما يملأ سويعات الفراغ الا مقهى الوداد المعروف بعينة خاصة من الزبائن وهم من رجال التعليم ممن تعلقت قلوبهم بلعبة الشطرنج؛ التي جعلت من ذلك الفضاء مكانا اقضي فيه ساعات الاستراحة المسائية في تحدي لخصوم مشاكسين ممن خبروا بأسرار اللعبة فكان التضارب سيد النتائج المحققة. لم يكن الهاتف النقال قد رأى النور آنذاك. لذلك كان والدي يلجئ الى هاتف المقهى كلما شده الحنين الى تجاذب أطراف الحديث معي.

في أحد أيام شهر مارس، وفي طريق العودة من بني ملال في اتجاه سيدي بنور، توقفت الحافلة في محطة مراكش الطرقية حيث غادر السائق للاستراحة لدقائق معدودة لإتاحة الفرصة لمن انتهى بهم السفر بالمدينة الحمراء واستقطاب مسافرين يملئون المقاعد التي أصبحت شاغرة في اتجاه مدينة الجديدة. كنت أقف على الرصيف ضمن مجموعة من المسافرين الذين انصرفت انظارهم للاتجاه الذي توارى فيه السائق حينما اخترق شرودي صوت كان يستفسر عن شيء ما. كان شابا ثلاثينيا مكتنز الجسم، قصير القامة، منشرح الملامح، وقد سألني عن وجهتي وإن كان الامر سينتهي بي الى الجديدة حيث يشتغل اخ له بالمحطة الطرقية، كان يسترسل في حكايته عن أخيه حينما قاطعته لأخبره أني سأغادر الحافلة بسيدي بنور فتغيرت نبرة صوته نحو حزن خافت وأسف اعتلى محياه دفعني الى التساؤل عن سر الحاحه على محطة الجديدة ؛فأخبرني أنه من ضمن الدكاترة المعطلين الذين كانوا يعتصمون بمراكش وأن أيام النحس قد ولت بالمناداة عليه ضمن مجموعة من المعتصمين للالتحاق بالعمل في كلية العلوم الإنسانية؛ وقد نفذ ما كان معه من مال كي يقتني تذكرة السفر لبني ملال حيث يقيم وعائلته لجلب أغراضه ومباشرة عمله. سألته عن مكان سكناه فقال إنه من ساكنة حي كاستور الشعبي. كان يأمل ان يتمكن أحد المسافرين من اخبار أخيه بما صارت اليه الأمور فيهب لمساعدته. ما ان اتم كلامه حتى بدأ المسافرون يتدافعون في اتجاه باب الحافلة بعد ان اتخذ السائق مكانه وأدار المحرك. بدون تفكير، دسست يدي في غياهب جيبي فأخرجت منه ورقة مالية من فئة 50 درهم دفعت بها اليه ولكنه تعفف؛ ثم مد يده في استحياء ليخفيها في ثنايا جيب سرواله بعد اصراري. انطلقت مسرعا الى مكاني بالحافلة فتبعني مصرا على معرفة مكان اقامتي في بني ملال لإرجاع الورقة المالية. أمام إلحاحه، اشرت اليه ان يسأل عن اخي "صلاح الدين" الذي كان يملك صالة للألعاب في السرداب وان يعطيه إياها. ودعني شاكرا ثم غادر الحافلة التي كانت عجلاتها قد تحركت لتتخذ مكانا بين اخواتها المتهافتات على بوابة المحطة.

مرت الأيام على ايقاعها الرتيب الذي لا انتشاء فيه عدا لحظة الانتصار في لعبة الشطرنج وما يرافق ذلك من تقمص شخصية عنترية لا تقهر. وبينما كنت منهمكا في حل شفرة تحرك احدى قطع رقعة الشطرنج، جاء صاحب المقهى يخبرني ان والدي ينتظر على الهاتف. اسرعت مهرولا فأخبرني أن صديقي جاء يطلب منه مبلغ ألف درهم. فاستمهله ان ينتظره ليحضرها من الطابق الأول قبل ان يهاتفني للتأكد من هويته التي انتابه شك فيها بحكم فراسته وتعدد وتنوع أمواج بحور الحياة التي ركبها.

جاء الشاب الى صالة اخي فلم يجده، فسأل عن والدي ليدله أحد مستخدمي الصالة –وكان صلاح الدين يشغل من الشباب الاشداء منهم لردع المراهقين والمفتعلين للمشاكل-.

رن الجرس وطلب لقاء الحاج ليخبره انه صديق لي وأنه قاضي من سيدي بنور كان في رحلة سياحية، نام في الحافلة فسرقت أوراقه وكل أمواله. ساعدتني المعارك التي خضتها في رقع الشطرنج على سرعة التثبت من هوية القاضي المحتمل الذي لم يكن سوى الدكتور المزيف الذي كان يصر على ان يفي بدين الخمسين درهما.

مباشرة بعد انتهاء المكالمة، أرسل والدي أصابعه مجددا لتركب على الهاتف رقم الصالة فطلب من أحد مستخدميها إلقاء القبض على شخص ينتظر في الباب.

في الوقت الذي كان صاحبنا ينتظر غنيمته إذ بشاب قوي مفتول العضلات يتطاير الشر من مقلتيه يمسك على قفاه ويأمره بعدم اصدار أدنى زفير. كان حضور ابي خلاصا للقبضة التي حولت صاحبنا الى وضع فأر صغير بين مخالب هر شرير. قال له مخاطبا: "لولا هذه الأيام المباركة لما آثرت العفو عنك ولكنت سلمتك للشرطة. أتظن أنك تستطيع خداع الجميع؟ مهما كنت ذكيا فهناك من هم اذكى منك..اتق الله ولتبحث لك عن عمل". كان المستخدم يستشيط غضبا وما ان اغلق الباب وصار ابي يرتقي نحو الطابق الأول، حتى انفرد الشاب القوي بغنيمته لينهال على صاحبنا النصاب بسلسلة من اللكمات اختلط فيها الريق واللعاب والدم وتغيرت معها ملاح وجهه ولم ينفعه إلا استعطاف امرأة عجوز استغل عندها فرصة توقف بركان الغضب ليسلم ساقيه للريح.


  • 1

   نشر في 19 فبراير 2018  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا