المارقة والمارقون - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

المارقة والمارقون

هيام فؤاد ضمرة

  نشر في 26 ديسمبر 2018  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

المارقة والمارقون..

هيام فؤاد ضمرة..

مع بدايات القرن التاسع عشر تحدث ضابط بحري فرنسي أنه شاهد موجة محيطية (في المحيط الهندي) مارقة ووحشية حد الخيال فقد ارتفعت مسافة 30مترا تقريبا في الفضاء، ورذاذها وصل لارتفاع مضاعف تقديراً، فواجهه العالم بالسخرية، حتى تكررت حوادث فقدان السفن الكبيرة دون أن يعود من يحدث عما حصل لأنها كانت تؤدي إلى غرق أعتى السفن قوة ومتانة، والموجة المارقة (موجة النزوة) هي غير موجات تسونامي (الميجاتسونامي) التي تحدث نتيجة نزوح هائل للماء ناجم غالباً عن تحركات مفاجئة في قاع المحيط كالزلازل، وهي غير مرئية على سطح المحيط في الداخل البعيد بدليل أنها لم تتسبب في أي حوادث غرق داخل المحيطات، الا في غرق السفن الراكدة في الموانيء.

والمعنى الاصطلاحي للمارقة هو إسم فاعل من مرق، أي النافذ من الشيء دون اعوجاج فيه، كالسهم يمرق من جانب إلى جانب منزلقاً خارج هذا الشيء، والبيضة تمرق إذا فسدت، ومرق الرجل بدت عورته، والمارقة القتلة الأشرار المتجنيين، والدولة المارقة تلك التي تمارس الاستبداد مع مواطنيها، أو تلك الدولة العاجزة عن ايجاد منظومة أخلاقية تعامل من خلالها العالم الخارجي وفق معايير محددة، فلا تحترم المعايير الدولية أو الحقوق الواجبة.

وأي عمل صادم للعقل معبر عن الوحشية، وفي نفس الوقت دال على التحطم النفسي الذاتي لقوي الذات الإنسانية هو مروق، فهو كالمرض المهاجم قوى الدفاع الذاتي يدمرها بلا رحمة، والعمل الوحشي الذي يحقن المجتمعات بالشر اللا أخلاقي، والعنف اللا إنساني، ليطال ذاك اللا مبالي بالمواثيق الدولية والقوانين الإنسانية المتعارف عليها محلياً ودولياً.

وأشد الدول المارقة تلك التي تولِّد دولاً مارقة مثلها، وتثبّت فكر المروق وتعمل على تجذيره كفكر عصري حديث مناسب للاضطلاع بمهمة هذا العصر التعيس، فتقحم مفهوم الدولة المارقة في مجال التعبير عن خطابها السياسي العام، واستراتيجياتها العسكرية، وأشهر من تناول مروق الدول ولملم شظايا مدلولها في بوتقة الانفجار هو الفرنسي جاك دريدا، الذي عمل على إعادة رسم قواعد الاشتباك بين الحق والقوة، ملامساً تخوم الحالة السياسية لعصر حديث يعتبر منقلباً في مفاهيمه العصرية بالنظر لشكل الدولة.

وقد استخدم دريدا كل المؤشرات التي توجه أصبع الاتهام بالمروق نحو دولة المركز الكونية الولايات المتحدة في ظل تفردها بحكم العالم وممارستها لامبريالية الدولة المتحكمة بكل مفاصل دول العالم التي تدور في فلكها وتتبع خطوها دون مقاومة، فويل لمن قاوم أو أبدى مشاكسة في قناعتها المهيمنة، فسيصيب دولته الخراب، وتتشوه صورته دون أي اعتبار لحساب.

وحالة المروق في العادة المستدركة هي حالة مولدة للارهاب بلا ريب، إرهاب من صنف متعجرف لا يضع للحقوق ميزانا، إرهاب مغلف بنظام عولمة جديد، لا يضع اعتبارا لأحد إلا تطبيقا لمزاجية حاكم متغيب العقل ليمارس انحيازاً فكريا متعسفاً، لا يعد انموجاً ولا يحقق عدالة دولية، بل هو مؤشر واضح لإرهاب دولي لا يتوافق والسياسات الكبرى لدولة عظمى.

إنّ أسوأ أنواع الإرهاب المارق وأشدها وطأة على الشعوب التي تعيش ضمن ظروف كونها طرفاً في صراع على حقوقها الإنسانية فوق أرض وطن مسلوب، سلبته قوى هجينة متجنية ومغتصبه ترتكب أعتى الممارسات وأشدها ظلماً على أصحاب الأرض والحق، كأنْ تهدد حق هذا الشعب المتضرر وتهدد دولاً مجاورة لفرض واقع دولة مغتصبة لوطن شعب حقيقي، وتمارس على هذه الدول الضغوط والعقاب الاقتصادي والمالي لهدف إرباكها والضغط عليها لتتخذ مواقف لا تتناسب ومبادئها ولا تتواءم مع مصالحها، وعليه تصبح مقولة الحرب على الإرهاب الدولي المارق، مروقاً أشد وأبلى، وتعبيراً غائب عن المدلول يتنافى والحقوق الإنسانية، بل هو مدلول شديد الإرتباك والتزييف، دال على تمرد يعتمد على نظام عاجز يستغل ظروف دول هشة الأنظمة قابلة للإنهيار، سرعان ما سترضخ تحت هول الضغوط ومشارفتها على الإنهيار الفعلي.

فالمروق لا يعتمد فقط على منوال الإرهاب بصورته الوحشية الظاهرة، لأنه في حقيقته على واقع الحال الظاهر هو أطروحة إرهاب من نوع أشد وأنكى يقلب ميزان القوى لغير جانبه السليم، ويسلب الحق من أصحابه عنوة وجبروتاً، أي هو حدث دال على إرهاب عالمي لا يضع للحقوق موازين حقيقية، بل هو محقق لمصالح ذاتية لا تبتعد عن التجني والظلم والمروق الوحشي المغتصب، سلوك لا ديمقراطي يدعي زوراً وبهتاناً الديمقراطية مستغلا شعاراتها لتمرير مروقه وجبروته، وممارسة بغيضة لقوة مارقة باعتباره قوة فوق كل القوى يحق له اتخاذ ما هو غير مسموح لغيره من القوى.

فما تؤججه إشكالية امتلاك حق الفيتو في الهيئة الأممية الدولية هي ممارسة لأعتى الاشكاليات في امتلاك الحق والقوة، في حين سقوط أخلاقيات العدالة في الحقوق، والتغول بوحشية على القرار الذي يتفق عليه الجميع، وهو ممارسة لا أخلاقية تمارسها دولة مركز منحازة بصورة رهيبة وغير متزنة، ومتغولة بصورة وحشية، تلغي الدور الرئيسي لمنظمة دولية وجدت لإحقاق الحقوق بعدالة تامة، مما يسقطها في منهجية اللا واقعية وغير المهمة لأداء الدور الحقيقي من وراء ما أعدت للقيام بدوره، إنها ممارسة لشل قوى الآخرين وِفرض وحشية التجني والمروق، وحق امتلاك القوة لا يعني التحيز والتشدق بما يتشدق به المارقون السفهاء.

والأمة العربية تمارس اليوم مروق انحدارها المهين وارتدادها الوهين، وتحلّ عليها الويلات في إثر الويلات بسبب مروقها من قيم دينها ومسالمتها لأعداء جنسها وأوطانها وديانتها ومصالحها، ويعبر عن ذلك الشاعر بعبارة دالة بصورة متسائلة:

مَنْ سيُنقذ الأمةُ منَ الغرق=وقد أوضحَ اللهُ لها المُفترَق

مرَقتْ الأنظمةُ ولم تَفِق= أفِق يا مسلم قبلَ أنْ تنسَحِق

وإنّ الإنسان ليسعى في هذه الحياة حثيثاً ليصل درجة الارتقاء بالعيش من عرين مناكبها، ليحقق السمو في دروب وعروج مساربها، ويجمع شتاته وأعصابه من مشارب حطامها، ليثبت وجوده فوق أرض تهب خيرها من أصل جودها، فلا كرامة لمن زل واعتل وهوى، ولا عز لمن رد عن الدور المناط فارتحل إلى الردى وهو يظن نفسه حاجا إلى المبتغى، فما أخذ منه بالقوة لا يعيده إلا قوة مضادة مساوية لها بالحجم والقيمة والاندفاع.. لقول الله تعالى في سورة الأنفال:

" *يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكُم واعلمُوا أنّ اللهَ يحُولُ بينَ المرءِ وقلبِهِ وأنّهُ إليهِ تُحشَرُون* واتقوا فِتنةً لا تُصيبنّ الذين ظلمُوا مِنكم خاصّة واعلمُوا أنّ اللهَ شديدُ العِقابِ*"

وفتنة المروق لهي أشد الفتن وأضرها على أمم الأوطان وحقوقها، وإنها لتغيب شمس الحق عن البزوغ، وتطفئ شعلة النور في القلوب، وتقلب موازين الحقوق وتغيِّب نواميس العدالة الوجدانية في النفس الإنسانية لتنعكس وبالاً وجبروتاً على المجتمعات، ليهبط الانسان إلى الدرك الأسفل من أشكال الطغيان، ويصيبه الانحطاط والانغلاق في قعر الحياة، متجاوزا قول الله في كونه من الأمم الوسط المختارة في جعلها الشاهد والمنقذ للإنسان من طغيان الإنسان.

وتحضرني أبيات الرحالة محمد ابن جبير الضمري الأندلسي من عروض البحر البسيط توائم المعنى والمغزى بنتائجهما

عجبت للمرء في دُنياهُ تُطعِمهُ= في العيشِ والأجلِ المحتوم يَقطَعهُ

يُمسي ويُصبحُ في عشواءٍ يغبِطُها= أعمى البَصيرة والأمالُ تزرعهُ

يغترُ بالدهرِ مسروراً بصحبتهِ= وقد تيَقنَ أنّ الدَهرَ يَصرعهُ


ولأحمد فارس الشدياق قوله

ومن نكد الدنيا معادة مارق= لئيم يبيع الدين والعرض بالكاسِ

فلا هو ذو دين فيَحذر ربه= ولا هو ذو عرضٍ فيجزى من الناسِ


ولأحمد شوقي بعض ما ألقاه في المؤتمر الشرقي الدولي في جنيف

ورأى المارقون من شرك الأر= ض شباكاً تمدها الدأماءُ

وجبالاً موائجاً في جبالٍ= تتدَجَى كأنها الظلماءُ

ودَوياً كما تأهبَت الخيـ = لُ وهاجَتْ حُماتَها الهَيجاءُ

لُجةٌ عند لُجةٍ عند أخرى= كهضابٍ ماجَت بها البيداءُ


  • 1

  • hiyam damra
    عضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية
   نشر في 26 ديسمبر 2018  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا