عن الناجون ومعاناتهم - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

عن الناجون ومعاناتهم

  نشر في 23 غشت 2021 .


أنا أكتب هنا للذين يبتسمون رغم انبعاج ملامحهم من كثرة الحزن والصمت. أكتب للذين يعيشون الحياة أكثر من الأصحاء نفسياً، وللذين يكتمون أحزانهم حينما مرت عليهم ضغوطات تستوجب البكاء، لم يبكوا ولم ينهاروا بل قالوا "الحمدلله و إن شاء الله بكره خير". أكتب لكل القلوب المتورمة التي اعتادت على التجاوز.. وعلى ما ينكأ جروحهم المفتوحة. ضاحكين بلا أدنى مبالاة لأنينهم المكتوم.

وهم يتصرفون هكذا لأنهم وبكل بساطة رأوا أن الضحك والتجاوز هما العلاج الأجدر لكل ندبة سودت حياتهم؛ لكن لكل شيء ثمن!

هؤلاء وحدهم الذين يُطلق عليهم لقب الناجون.. وهؤلاء فقط أهدي إليهم تلك الكلمات.

لي الفخر أنني اقتربت من بعضهم روحيا، حتى تسلل إلي فكرهم وطريقة تجاوزهم للصعاب والمآسي، فعرفت كيف أساير همومي ومحو بعض ندباتي، والأمر جد لم يكن سهلاً. فكنت كمن يحاول شنق نفسه يوميا وأحيانا أكثر من مرة في اليوم الواحد. وهي طريقة يجب أن تجمع بين الغلظة والخفة وإلا لَقُتلنا. هناك من يتناسون ذلك المزج، فيستسلمون للموت أي الانتحار لأنهم لم يستطيعوا الصمود وتحمل عملية الشنق يوميا! 

الناجون يتركون أنفسهم للانتحار البطيء، بهذا هم يتحررون من عذاباتهم وعبوديتهم، فينبت مكانهما حياة جديدة! أنهم بطريقة ما مؤمنون بقوة داخلية تحركهم. كما أن هناك حكمة قديمة تقول "أن تلك القوة التي تدفعك، ما هي إلا انعكاسا لروحك ولرغباتك"

يقول الفيلسوف الهندي شانكارا " كي تتحرر من العبودية يجب أن تفرق أولا بين ما هو من نفسك وما هو ليس منها، تخلص من اعتقادك أنك أنت هو نفسها كتلة اللحم التي أسمها جسدك. ميز نفسك الحقيقية تجدها خارجة عن الزمان، لا ماضي لها ولا حاضر ولا مستقبل، عندها تجد سلامك الروحي"

هكذا يكون مبدأ الناجي، أنه يبدأ بأخذ تعهدا على نفسه بخلع جلده القديم الرث، وإن لم يستطع فعليه أن يسايره، ثم يقوم بمسايرة ما يدور حوله من أحزان وضغوطات خاصة تلك التي لا يد لنا فيها. أن التقبل بوجود الألم هو أهم خطوة في طريق مقاومته. كما أن معاناته سيكون لها معنى. ومن هذا المنطلق سيبدأ فكره بالتغير وسيكون أكثر تشبثا في النجاة أكثر من الاستسلام. 

يحدثنا أستاذ علم النفس ڤيكتور فرانكل عن قبول المعاناة قائلا: "فإذا تقبلنا تحدي المعاناة بشجاعة، كان للحياة معنى حتى اللحظة الأخيرة، وتحتفظ الحياة بقوة بهذا المعنى حتى النهاية" إذ أن الحياة لن تخذلنا ولن تضيع مجهودنا هدراً كما نضيعه نحن البشر على أتفه الأمور، بل أن الحياة ستكافئنا على قوة تحملنا وصبرنا في الأخير.

فستجد - مثلا كما لو ألقت عليك سحرا - أنك صرت تنسى.. تنسى آلامك التي لطالما نهشتك كحيوان مسعور حتى رمقك الأخير. تنسى ندبات الماضي تلك التي تأبى على المحو رغم محاولاتك المستميتة معها. هي موجودة نعم، لكنها ما عادت تؤثر فيك. كل جرح فيك سواء أكان خفيفا أم عميقا أم حتى ذا مأساة شكسبيرية ستشعر كأنه لم يكن. حتى عندما تقوم بنبشه بمحض إرادتك في لحظة هذيان، ستتفاجئ بأنه صار خرائب تعشش فيها أفكارك وسوداويتك آنذاك، ستجدها وقد تحولت إلى كائنات صغيرة حقيرة بعد أن نالت منك لسنوات كنت مستعدا فيها بتقديم نفسك قربانا لها لتعفو عنك!

بعد كل هذا المسير، أظنك ارتأيت للتسليم في معاناتك وفي كل آلامك في العموم، الماضي منها والمُعاش، وأنت هنا يجب أن تشعر بالفخر لا بالخزي، لأنك في موقف المحارب الذي لازال يقاتل ممنيا نفسه بالانتصار رغم انهاكه. فمدام المعركة مستمرة تشبث بموقفك كمحارب مخضرم يأبى الإذعان لفكرة الهزيمة.




  • 9

   نشر في 23 غشت 2021 .

التعليقات

ياسر السيد منذ 3 سنة
احسنت
1
أبدعتِ وأفدتِ .
وبإذن الله ينتصر كل محارب في ساحات الألم وتسري الطمأنينة في كل القلوب المتألمة .
4

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا