جميلة هي تبتسم لي كل صباح مع إشراقة شمسها تزدان بعطرها الفواح , فتجذبني إليها احتضنها بشدة , أتمتم في سري ليتها تبقى هكذا سأعيش مديدا لأجلها. إذا ما اتجهت شرقا صوب شمسها , تجدها محاطة بكروم العنب , وتتزين أرضها بيارات الليمون والبرتقال , إذا ما قلبت أوراق شجرها ستهمس لك بقصصها .اتجه من شرقها إلي غربها على بعد 8 كيلو مترات ترى بحرا شديد الزرقة يلامس السماء في الأفق البعيد , تتجاذب على أطراف موجه قصص عشق هذه الأرض , فتمتزج بترابه المخضب بدماء الحرية. أغمض عينيك وحلق عاليا كطير في سرب مهاجر حيث الحدود مع مصر لا يوجد ما يمنعك لتخطيها , قف على ناصيتها وقل أنك فلسطيني فتضرب لك تحية إكبار وإجلال ويسمح لك بالمرور دون عناء يذكر , تأخذك نسائم الجنوب إلى شمالها , فيبتسم لك وسطها غامز العين ملوحا بيده اليمنى يهديك وردة لتغرسها في أقصى شمالها , فتربته خصبه تروى بعرق المحبين الواثقين بكرم الله , فهم يزرعون لغة الحب والسلام فيها , وينثرون عبيرها فتكون قبلة لمحبي العالم .
لا حرب ولا دمار ولا خوف ومستقبلنا فيها مرسوم المعالم, حياتنا جميلة، مقسمة بين مدرسة ولعب، وأحلام صغيرة، نشبه بها أطفال العالم من حولنا، نلعب، نلهو، ندرس، نحب الحياة، ما استطعنا إليها سبيلا.
استيقظت ذات صباح من أيام ديسمبر لعام 2008 , كان اليوم كأي يوم يسبقه يسير بشكل رتيب , نظرت إلى السماء , فوجدتها ممتلئة بطيور غريبة الشكل , ما لبثت أن اقتربت من الأرض وألقت حمولتها تشكل لي بشكل سريع صور متلاحقة من الخوف والظلام , قطع سيل تخيلاتي أصوات هادرة أحالت نهار اليوم ليلا حالك , سرت للمنزل غير مدرك لما يجري , أصوات أهلي وجيراني سيل من الاتصالات , خوف تشكلت ملامحه في كل ما يحيط بي . دقائق حتى صدحت قنوات التلفزة بأخبار عاجلة تلو الأخرى معلنة سقوط أكثر من 100 شهيد , عشرات الجرحى , جلست هنيهة محاولا إدراك ما يجري , ثم أدركت أني أعيش ببلد يعاني ويلات الحرب والحصار , تذكرت يوم كنت حبيس حلم حاولت أن أعيشه هاربا من واقع مؤلم ( كل الأحلام تتحقق إلا في هذه البقعة ) كنت أبلغ من العمر وقتها 8 سنوات .
نسيت أن أقول لكم احتفل العالم في ذلك الوقت بدخول العام 2009 , أطلقوا الكثير من الأنوار والألعاب النارية, لم يلقوا بالا لغزة وكأنها في عوالم أخرى , ونحن احتفلنا ؛ لكن لم نطلق الألعاب النارية ؛ بل كنا نستقبلها تقتلنا وتدمر بيوتنا , وتنقلنا لعالم آخر تمناه الكثير . 22 يوما زادت من عمري قرنا , أجل أنا طفل أبلغ من العمر 108 سنوات .
22يوما شكلت معالم مستقبلي , استوطنني الخوف , تملكني التيه , لا يعرف النوم الي طريقا .أجل اتمدد على فراشي , أوهم أمي أني نائم حين تتفقدني ؛ ولكن هيهات لهذا الزائر أن يلقي إلي تحياته المسائية . مشاهد القتل تلاحقني , وصرخات أصدقائي تؤرق مضجعي , أطالع السقف خوفا من أن يغتال جسدي , سأخبركم بأمر لكن لا تخبروا به أصدقائي (حالتي النفسية تسوء يوم بعد يوم، انشغل في قضم أظافري، أكره الناس، ولم أعد أحب اللعب، ولا داعي للدراسة بعد اليوم، لا يفرق كثيرًا في حياة طفل رأى الموت، أن يعيش، أو ينام، أو يدرس أو يلعب، كل الأقدار تشبه بعضها!) خافت أمي، ودارت تحمل خوفها إلى مراكز التأهيل النفسي , علها تجد ضالتها في إعادة ما كان يسمى طفلا .
تحدثت أمي والأخصائية النفسية حديثا طويلا , كنت معهما جسدا بلا روح , اتفقتا على ضرورة زيارة المركز 3 أيام أسبوعيا , مرت على تلك الزيارات سنتان .
ازدادت حالتي سوءا , يتملكني الرعب عند سماع أي صوت، زاد سواد الليل حلكة ولم نخرج من أزمة حرب حتى دخلنا أزمة أخرى لتُعلن الحرب مرة ثانية على كياني ( يا الله وأي ذنب اقترفته لأذوق الموت آلاف المرات ) 8 أيام من عام 2012 أسقطت ورقة التوت فيما بقي من ربيع عمري , ما عدت أرغب في الحياة , وكرهت ذاك الشاعر الذي قال واني أحب الحياة ما استطعت اليها سبيلا , بل كنت أردد في سري وأني أحب الموت وأدعوا الله لذلك ما استطعت سبيلا
انتهت الحرب وانتهيت أنا , وأخذت الشيخوخة تشكل لوحتها على جسدي كيفما شاءت , فالعين غائرة في الوجه, واشتعل الرأس شيبا , وانحنت قامتي من ثقل ما حملت في سنتين , عادت أمي مسرعة بي إلى ذاك المركز؛ فسألتني الأخصائية عن أيامي كيف اقضيها؟ عن مناماتي وأحلامي ؟ عن ملامح مستقبلي ؟ فقلت لها: أنا شيخ سيدخل المدرسة بعد أيام , والأحلام لا طعم لها ولا لون , والنوم بات عندي أغلى من الذهب , ولا أملك ما أبتاعه به فلم يعد في العقل أحلام.
مرت الأيام أتفقد بها نفسي وأحلامي وأصدقائي , خالد مقطع الأوصال , وحامد بلا بيت , ومحمد استشهد جل أهله , ومحمود وحسان وجد الموت اليهم طريقا.. ليتني كنت معهما. يقولون إن الأطفال يبقون في السماء , ينظرون لأهل الأرض ويوزعون لهما الابتسامات أصرخ عاليا عليهما (كيف هو منظر السماء من فوق، كيف يرحل الأصحاب هكذا دفعة واحدة بدون سابق إنذار، ألم تقولا إننا سنعيش معا ونرحل معا!! )
غفوت عن الدنيا عامين لم أنسَ صور الأحبة ودمار الذكريات ووجع الطفولة المسلوبة , وليتها كانت كغفوة أهل الكهف ؛ ولكن هيهات فالهدوء في غزة من سابع المستحيلات , بل إن الله كتب الشقاء على هذه الأرض هكذا أحدث نفسي . رمضان 2014 موعد آخر مع الموت في وطن عصي على الحلم , 51 يوما فقدت فيها بيتي وتلك الأم التي كانت تصارع الخوف, وحي سكني بأكمله , فقدت معنى الغد .. فقدت الحياة .. فقدت الحب والحلم .. وزاد عدد أصدقائي الذين يسكنون السماء وأنا لأعرف سبب تشبثي بهذه الأرض .
ذهبت إلى المدرسة، خضعت لرجاء أمي التي كانت تقول إنها أول خطواتي على سلم المستقبل, المستقبل الذي كانت تحكيه لي قصصا قبل النوم وليتها ما فعلت . انتهت الحرب وعدت لنفس المدرسة , وكانت المفاجأة أن يكون صفي هو نفسه تلك الغرفة التي حشرت فيها مع 70 فردا ذقنا فيها صنوفا من الخوف والتشرد . يدخل الأستاذ مبتسما مخفيا خلف ابتسامته عذابات الحرب فهو بلا أقدام يتحرك يمينا ويسارا علي كرسيه المتحرك محاولا التعرف علينا اقترب مني وقال لي: يا دامع العينين من أنت, نظرت اليه وابتسمت له مجاريا, وقلت له: يا أستاذ أنا ابن الحرب !
-
محمد نشبتصحفي فلسطيني