الرجل الذي رأى الغد

«إن الطاعون الكبير للمدينة البحرية لن يتوقف حتى يتم الانتقام لموت الدم العادل، المًدان بثمن دون جريمة، من السيدة العظيمة التي أغضبها التظاهر»

عام 1555 صدرت الطبعة الأولى من كتاب "النبوءات" للعراف الفرنسي الشهير نوستراداموس، والذي قد تنبأ بمجموعة من التنبؤات الشيطانية التي سوف تحدث في زمانه إلى نهاية العالم. وقد كتب داموس الكتاب بشكل مقاطع شعرية من أربعة أبيات مبهمة المعاني ومليئة بمختلف المصطلحات من لغات متعددة مثل اللاتينية، والإيطالية، وغيرها.

"قرب المينا وفي مدينتي ستحدث كارثتان لم ير التاريخ لهما مثيل،

جوع، نار، طاعون،

وفي الداخل، ناس يهربون خارجا وسوف يبكون من أجل الحصول على مساعدة الله العظيم".

في غضون سنوات قليلة من استقرار نوستراداموس في مدينة الصالون، بدأ بالابتعاد عن الطب وأصبح يمضي ساعات طويلة من اليوم يتأمل أمام وعاء مليء بالماء والأعشاب. التأمل سيجلب غيبوبة ورؤى. ويعتقد أن الرؤى كانت أساس توقعاته للمستقبل. وقد قصد نوستراداموس استخدام مصطلحات من لغات متعددة في كتابة "النبوءات"، وذلك حتى يتجنب مقاضاته على أنه ساحر أو مشعوذ، فقد قصد خلق حالة من الإرباك في تسلسل التنبؤات فلا تنكشف أسراره للناس العاديين، وهذا ما جعل كتاب "النبوءات" أشهر كتب المنجمين في العالم، وقد نسجت حولها هالة كبيرة من الغموض والإثارة.

يُقال أن نوستراداموس تنبأ بآلاف التوقعات على مدار حياته. ويقال أيضاً أنه توقع حريق لندن العظيم، وهجمات 11 سبتمبر على البرجين التوأمين، وأيضاً اغتيال جون كينيدي وروبرت كينيدي.

"الرجل العظيم في أعظم دولة تصعقه صاعقة في عز الظهر، وأخوه بعد ذلك"

وتنبأ أيضاً بصعود هتلر ونابليون ودونالد ترامب إلى أعلى المناصب.

ففي الرباعي الأول: 60 تنص على "حاكم ولد بالقرب من إيطاليا ... إنه أمير أقل من جزار". يمكن تفسير عبارة "بالقرب من إيطاليا" على أنها تغطي نطاقًا واسعًا جدًا من الجغرافيا، ولن نوستراداموس لم يقدم تفاصيل عن الحقبة التي سيعيش فيها هذا الحاكم. وبسبب هذا الغموض، ولن نصوص التنبؤات هي نصوص عامة وليست دقيقة، فسر البعض هذه الرباعية على أنها تشير إلى نابليون، ولكن الآخرين لا يزالون يشير إلى هتلر.

"سيتغلب الأسد الصغير على الأسد الكبير

في ساحة القتال وفي قتال فردي

سيفقع عيناه في القفص الذهبي

جرحان في مكان واحد ثم يموت موته قاسية".

بعد مرور ثلاث سنوات على كتابة تلك النبوءة، وعند غروب الشمس، وبعدما انتهت المبارزة بين الملك هنري والقائد الشاب للحرس الأسكتلندي غابريل، أصر الملك هنري على جولة ثانية بعد أن انتهت الاولى بالتعادل، وفي أثناء المبارزة ثقبت شظية من رمح غابريل خوذة الملك، واستقراره خلف العين ناحية المخ، فارتفعت صرخة رعب من الحشد، حقا لقد تحققت النبوءة، كان الملك هنري له رمز أسد على درعه الذهبي، وكان قائد الحرس علمه يحمل رمز شبل صغير قوي.

"ولدتَ في الظل وخلال يوم مظلم، وستكون صاحب السيادة في العالم"

في عام 1550م انتقل نوستراداموس إلى مدينة صالون الفرنسية - المكان الذي بدأ فيه كتابة تنبؤاته الشيطانية. ووقعت حادثة غريبة جداً أثناء زيارة نوستراداموس إلى مدينة صالون، عندما طلب رؤية شامات موجودة على جسم صبي في الحاشية، كان ذلك شكلاً من أشكال التنبؤ الشائعة في ذلك الوقت، إلا أن الصبي خجل وفر هارباً. لم يكن بطبع هذا أغرب شيء، بل الأغرب منه أن في اليوم التالي توجه نوستراداموس لرؤية الصبي وهو نائم، ثم أعلن بعد ذلك أن هذا الصبي سيكون في يوم من الأيام ملكاً على فرنسا، وكان هذا الشيء غريبا جدا، فقد كانت كاترين زوجة ملك فرنسا هنري الثاني الذي توفي لها ولدان على قيد الحياة، وكان ذلك الصبي هو هنري النافاري الذي أصبح فيما بعد الملك هنري الرابع. وقد حازت نبوءات نوسترآداموس اهتمام الناس منذ وفاة الملك هنري الرابع سنة 1559، حيث كان نوستراداموس قد تنبأ بموت ابن الملك هنري الرابع مسموما بعدما يموت أباه، وهذا ما حدث بالفعل، مما لفت إليه أنظار الشعب الفرنسي كله. وعلى الرغم من أن الكثيرين يعتقدون أن توقعاته كانت مجرد مصادفات، إلا أن الكثيرين من الحمقى ما زالوا يعتقدون أن نوستراداموس كان نبيًا حقيقيًا. ويعتبرُ بيتر ليميسورييه أنّ نوستراداموس ليس طبيبًا ولا عالمَ فلَكٍ ولا حتى نبيًا، بل هو مجرد رجلٍ أيقنَ أن التاريخَ يعيدُ نفسه، وبذلك تَوقعَ أن بعض الأحداثِ التي انقضت ستُعيدُ نفسها في المستقبل.

يقول بعض المشككين:

إن ما جاء في نبوءات نوستراداموس مكتوب بلغة بها بعض التعقيد، لذا يصعب تفسيرها بدقة، وحتى ما يفسر منها بعد ذلك تجده كلاماً مثل الماء يأخذ شكل أي قالب يوضع فيه، وعلى هذا يسهل تحوير الكلام بطيه كيف شاء القارئ ليسقطه على ما يريد.

ويقول البعض الآخر:

إن قدرات نوستراداموس حقيقية وتقع في نطاق علم ما وراء النفس (البارا سيكولوجي)، وأنها ليست مجرد خرافات أو تسخير الجن، فأتنبأ مثله مثل باقي القدرات فوق الحسية الخارقة، كالتخاطر، والجلاء البصري، والاستشفاء، وتحريك الأشياء، والتنويم الإيحائي (التنويم المغناطيسي). وقد تم تقديم قدر كبير من الأدلة على التنبؤ، ولكن لم يتم قبول أي منها كدليل علمي صارم على الظاهرة.

ويتفق معظم العلماء أن التنبؤ يقوم بانتهاك مبدأ (السببية)، وهي موضوع فلسفي وبشكل أخص في فرع فلسفة العلوم، وتعني أن التأثير لا يحدث قبل سببه، أي أن الحدث الثاني نتيجة للأول.

ثم انه لم ينتج عن مجموعة كبيرة من العمل التجريبي أي دليل علمي مقبول على وجود التنبؤ. وبالتالي، يُعتبر التنبؤ على نطاق واسع علمًا زائفًا بسبب نقص البيانات العلمية التي تثبت وجوده بالفعل.

إذا كيف استطاع رجل فقير يعيش في القرن السادس عشر أن يتنبأ بالحرب العالمية الاولى والثانية، وحرب الخليج، والثورة الفرنسية، وركوب الإنسان الطائرات، وغيرها من الأحداث الكبيرة في التاريخ الإنسان.

هل كان نوستراداموس مجرد رجل ذكي تَوقعَ أن بعض الأحداثِ التي انقضت ستُعيدُ نفسها في المستقبل؟ وهل ساعدته تشبيهاته الخيالية على مواكبة كل العصور؟ أم انه حقا يملك قدرة التنبؤ.

نحن لا نستطيع أن ننكر وجود التنبؤ، كما لا يمكننا تأكيده، إذا هل انتهت قصتنا عند هذا الحد؟ لا أظن ذلك، فأنا أرى من بعيد رجل يتنبأ باغتياله و.. ولكن تلك مقالة أخرى.