الأزمة الخليجية ودبلوماسية تنس الطاولة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الأزمة الخليجية ودبلوماسية تنس الطاولة

  نشر في 01 يوليوز 2017 .

اندلعت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي منتصف الأربعينيات وحتى مطلع التسعينيات من القرن المنصرم، وطالت هذه الحرب حلفاء كلتا القوتين العظميين وتشكَّلت التكتلات السياسية وبات العالم في حالةٍ بائسةٍ من الانقسامات والاستقطابات المهلكة.

في الصين عام 1949 قفز الشيوعيون على السلطة ممثلين في جيش التحرير الشعبي يقودهم ماو تسي تونغ Mao Zedong مستفيدين من انتصار جيشهم على حكومة الكومينتايغ الوطنية Kuomintang بقيادة شيانج كاي شيك Chiang Kai-shek المدعوم من الولايات المتحدة الأمريكية. فكان بديهيًا بعد تصدُّر الشيوعيين المشهد السياسي الصيني أن يقطعوا العلاقات الدبلوماسية التي زوّدت فرقاءهم الداخليين بالدعم ضدهم.

ظلت العلاقات مبتورة لحين إشعارٍ آخر، ارتمى ماو تسي تونغ خلال تلك الفترة بين أحضان أصنام الشيوعية الكبار جوزيف ستالين، جورجي مالينكوف، نيكيتا خروتشوف، وحتى ليونيد بريجينيف إذ اقتادت الأقدار مصير العلاقات الصينية الأمريكية لعهدٍ جديد. كان ذلك في إبريل/ نيسان 1971 حيث تقام بطولة العالم الحادية والثلاثين لتنس الطاولة على بمدينة ناغويا اليابانية في الفترة من السادس حتى السابع عشر من إبريل.

في أول أيام هذه البطولة بادر الفريق الصيني بدعوة نظيره الأمريكي -بصورةٍ ودية- لزيارة الصين عقب انتهاء البطولة مباشرةً، العرض الصيني كان يشمل الفريق الأمريكي بكل مرافقيه. كان الفريقان ينزلان بنفس الفندق، وخلال خروج الفريق الصيني من موقع البطولة شوهد اللاعب الأمريكي جلين كوان Glenn Cowan وقد تأخر عن حافلة فريقه؛ فما كان من اللاعب الصيني تشوانغ تسي تونغ Zhuang Zedong إلا أن بادر بدعوة كوان لاستقلال الحافلة الصينية إلى الفندق. وثقت الصحافة هذا العرض الودي وارتأت فيه تعبيرًا نبيلًا عن النوايا الحسنة؛ فالرياضة تجمع الشعوب وليست أداةً لتمزيق أواصر العلاقات بين الدول، هذه رؤية العقلاء وإن اختلفت هذه الرؤية في بعض العقول الضيقة أو المتزلفة.

في وقتٍ لاحق في ذات اليوم وُجِهَّت دعوةٌ رسمية للفريق الأمريكي لزيارة الصين، أقل ما توصف به هذه الدعوة أنها تاريخية؛ ذلك أنها المرة الأولى منذ عام 1949 يُسمح فيها لمواطنين أمريكيين بدخول الصين. في العاشر من إبريل دخل لاعبو المنتخب الأمريكي لتنس الطاولة الصين وبرفقتهم أزواجهم والحكام الأمريكيين والصحفيين، وقوبلوا بحفاوةٍ منقطعة النظير من الشعب الصيني بمختلف أطيافه وتوجهاته، وفي اليوم التالي لدخولهم الصين أقيمت مبارة ودية بين المنتخبين كان شعار الفريق الصيني فيها: "الرياضة أولًا.. المنافسة ثانيًا".

أثناء الزيارة التي امتدت حتى السابع عشر من إبريل زار المنتخب الأمريكي المعالم الصينية الخالدة يصحبهم المنتخب الصيني، وتعرَّفوا على الحضارة الصينية واستمتعوا بمشاهد بديعة في سور الصين العظيم وقصر الصيف وغير ذلك. في الرابع عشر من إبريل وقبل مغادرة المنتخب الأمريكي للأراضي الصينية، قفزت العلاقات بين البلدين قفزةً خيالية إذ رفعت الولايات المتحدة الأمريكية الحظر التجاري المفروض على الصين. وافى ذلك زيارة فريق أمريكي لكرة البيسبول للصين مطلع عام 1972 وانبرى السياسيون في البلدين في سلسلة متصلة من الاتصالات والمشاورات بغية تحقيق المزيد من التقدُّم في العلاقات الدبلوماسية، كلِّلت هذه المباحثات بالقمة الأمريكية الصينية وزيارة هنري كيسينجر مستشار الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون للأمن القومي، وتمَّ خلالها تحديد فبراير 1972 موعدًا لزيارة نيكسون للصين؛ ليصبح أول رئيس أمريكي يزور الصين.

أُطلِقَ على مجهودات فريقي تنس الطاولة في الصين والولايات المتحدة الأمريكية ما عُرِفَ لاحقًا بدبلوماسية تنس الطاولة Ping Pong Diplomacy في إشارة للدور الريادي الذي تلعبه الرياضة في تقريب وجهات النظر بين الشعوب، وما يمكن للرياضة أن تمارسه من تأثيرات في الحياة السياسية. إنَّ كلَّ ما يصدر عن المشاهير له تأثير على الجماهير، فلربما كانت إيماءة رخيصة شرارة اندلاع بركان غضبٍ هنا أو نذير شؤمٍ هناك؛ فليتقِ الله هؤلاء في أنفسهم وفي البلاد التي يمثلونها، وألا ينجرفوا وراء تيارات التناحر والشقاق.

كسرت كرة التنس صمت إرسال قوتين اقتصاديتين وأذابت جبلًا من الجليد كاد أن يهشِّم العلاقات بينهما كما دمَّر سفينة تيتانيك من قبل، لتأتي حكمة البعض بحلٍ ذكي وبعيدًا عن دبلومسية بعض الأبواق الإعلامية الرخيصة التي تنفث السم في عقول العوام. جاء الحل على طريقةٍ مدهشة جسدت بحقٍ ما يلوك البعض به لسانه ليل نهار أن "الرياضة رسالة حبٍ بين الشعوب" وتراه يتطاول دون أن يتمعَّر وجهه على مراسل قناةٍ رياضية تمتلك حقوق بث مباريات فريقه. تأتي الرياضة لتُصلح ما أفسدته السياسة وكن يأبى البعض إلا أن يلوي عنق الرياضة لتكون درجةً على سلم صعوده وتزلُّفه أو بغية التعبير عن وطنية مفتعلة.

كسرت كرة التنس صمت الإرسال بين الصين الشيوعية الاشتراكية والولايات المتحدة الأمريكية الرأسمالية، واعجب معي.. لم يفلح الإسلام الذي يجمع بين الأشقاء أن يمنعهم من القطيعة في شهر الله المعظَّم، والأشد نكايةً أن تصدُر "الفتاوى المُعَلَّبة" بأن من لم يتبع نهجَ المحاصِرِين فلا صيام له! ضجَّ الناس بالكنيسة لتلاعبها بهم في القرون الوسطى؛ فانسلخوا عن عباءتها، وانضوى الناس تحت لواء الإسلام لأنهم لم يجدوا فيه حكمًا للهوى على سلطان الدين، وقد صدع أعظم الخلق بالحق فلم يغضب لنفسِهِ مرة وكان يغضب للهن تابعه على نهجه الخلفاء الراشدون ومن انتهج طريقهم وسلك دربهم. أين من يقطع أوصاله بيده ثم يرمي أخاه بجريرةٍ هو بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب؟!

من دون شك أن الإسلام أكبر من الترهات التي يعزف عليها البعض، والإسلام أقوى من الجميع؛ فنحن بالإسلام وليس الإسلام بنا. إن كان اتفاق الشرق مع الغرب لمصالح اقتصادية؛ فإن حتمية جمع الإخوة في الدين واللسان والنسب أولى. أفرزت الأزمة الخليجية كما نعهد في كلِّ أزمة مجموعة من الدروس والعبر، ومن بين تلك الدروس ظهور من بكى ممن تباكى، وكشفت الشعوب العديد ممن يحسنون القول الطيب في الرخاء ثم يعتريهم الصمت المطبِّق في النوازل، ويتناسى هؤلاء فقه النوازل وفقه النصيحة وقول الحق بين يدي سلطانٍ جائر.

لعلَّ البعض ينتفع بقول عليّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه: أُكِلْتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض، ولعلَّ البعض ينتفع بقول القائل:

وإذا تركت أخاك تأكله الذئاب ** فاعلم بأنك يا أخاه ستستطاب
ويحينُ دورُك بعده في لحظةٍ ** إن لم يجئك الذئب تنهشك الكلاب

ويبقى سؤال آخر: هل هنالك وقت أكثر مناسبة من الآن لتتداعى علينا الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها؟ وهل تتقادعنا الأزمة الخليجية الحالية تقادُّع الفراش في النار دون أن يحرك أحد منا ساكنًا؟ ولأنني لست من أنصار القنوط وأرى الأمل بين أنياب هذه المُلِمَّة؛ فإنني أدعوا أصحاب العلاقة من الساسة أن يفطنوا إلى أن الشقاق والخلاف لا بدَّ له من نهاية، والنهاية ينبغي أن تلتمس الصالح العام، وأن نُعجِّل بها ونعقل قوله تعالى: "وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ" وليكن الاستماع لقول المصلحين لا لقول المغرضين. وللإعلام الذي ينفث في نارٍ ستأتي على الأخضر واليابس إن شبَّ لهيبها أقول: "وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ".  


  • 5

   نشر في 01 يوليوز 2017 .

التعليقات

عمرو يسري منذ 7 سنة
كلام سليم .
للأسف في حالتنا العربية بدلا من إستخدام الرياضة لإصلاح العلاقات بين الدول يتم إستخدامها لزيادة الإحتقان مثل ما حدث في مباراة مصر و الجزائر عام 2010 .
مقال رائع .
0
محمد الشبراوي
بارك الله فيكم أستاذ. عمرو، شكرًا جزيلًا.

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا