صوفينار .. الثلج وبيرسونا النار
أمل ممدوح
نشر في 25 نونبر 2016 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
بين الطبيعة ومبعوثتها الأنثى لغة خاصة بشفرات أودعت في الجسد الأنثوي بانحناءاته وانثناءاته الجمالية وحركته المرنة السلسة غير الحادة التي لا تخل من قوة وهيمنة تحاكي الطبيعة المفيضة بأسرارها سواء بانسيابية ناعمة أو بمباغتة ساحرة ؛ وفي الرقص الشرقي ذروة هذا الامتزاج حيث تودع الأنثى جسدها إذن الكينونة والكونية بالتحليق في معبدها بمجال يضج بسرها الخاص، وهو ما يفسر ما تختزنه الذاكرة الحديثة من كيانات مميزة وشخصيات أدائية متفردة لراقصات لا تغيبهن الذاكرة كما يصعب في الحقيقة أيضا عليها ألا يكن مصريات، هل هذا يرتبط بمقولة عجبت لها من أحد الأصدقاء العرب لي عن أن فاكهة مصر تختلف طعما ورائحة عن غيرها ؟ ربما .. فالروح تحديدا وإن غابت أشياء في مصر هي البعد الثالث للأشياء وللأجساد فيما يبدو ، لكنها الآن رغم ذلك الأكثر رواجا والتميمة المتممة لأفلام أشهر المنتجين الحاليين فأفلامها في ثلاث سنوات من 2013 وصلت لأحد عشر فيلما ورقصاتها الأكثر مشاهدة على بلورة العصر " اليوتيوب " .. تلك الصوفينارية ناشدة النار كما اختارت في شكل أدائها بلا صوفية؛ هي صوفينار واسمها يعني " عروس البحر " بلغتها الأرمينية الأم وإن كانت تعرف من اللغات سبعا .. هذه الراقصة الصعقة بحسب مواصفاتها الشكلية الزاعقة سواء الجسدية الأنثوية بمقاييس شرقية نموذجية أو بجمالها الغربي وبشرتها البيضاء وعينيها الرماديتان باستثناء شعر أسود طويل مرسل يوافق الصورة الذهنية للراقصة الشرقية ، أو في تعاملها كذلك مع فن الرقص بخاصية الصعق والذي لا يعني الإنضاج بل الوصول للنتيجة بأقصر الطرق ؛ فهي تؤدي غرضا سريعا للاستهلاك عبر الإبهار كأقصر طرقه؛ أكثر من تقديمها رقصة وحوارية جسدية مع قصة موسيقية تتسلسل انسيابيا لا تستطيع نزع جزء منها عن الآخر دون إحداث خلل، محملة بعناصر جمالية أكثر منها استجابة لنتيجة أو لحالة اندماجية، موسيقى تتبع إيقاعها لا يبين معها إيقاعها الخاص، هذا قد يكون الانطباع الأول رغم مهارة حركاتها وغزارة طاقتها لكنه يبقى الأخير بعد ملاحظة متأنية للعديد من رقصاتها وفيديوهاتها، والتي نلاحظ في تتابعها تزايد وزنها مع الوقت والذي ربما يرجع لنصائح رقيب ومرشد في تتبع الذوق الشعبي المصري، وهو ما يقودني لنفس الشعور حول هذا الانفصال الكامل بين روحها الفاترة وبين حركاتها الساخنة التي تداعب أيضا الذائقة المصرية شديدة الشعبية حد السوقية دون أن تشعر بأنها بالفعل تنتمي لهذه الذائقة وروحها ؛ فالأمر يبدو أقرب للتلقين المستتر من مدرب شعبي لمنفذ ماهر ، يزداد الأمر وضوحا إن قارناها بغيرها من الراقصات المصريات اللاتي قد وليس تأكيدا تفوقهن جمالا أو في طاقتها المستعرة وحركاتها الاستعراضية المبهرة كالومضات القصيرة لكنهن يبقين ذوات مذاق مميز غير مستنتسخ مشبع بروح الثقافة والزمن وخفة ظل حقيقية مداعبة ودلال يقفز من بريق العين نابع من ذاته ومكانه، والأمر هنا ليس تغزلا شوفينيا بل رصد وتأمل واقعي . مع صوفينار وبرغم تقدير اجتهادها وجماهيريتها ترى مهارة في تنفيذها لحركات مرسومة مصنوعة كمن انتهى من تسميع درسه ، تحرك إحدى ساقيها لأعلى بطاقة رائعة وشكل جمالي لكن أثر تيبس وافتعال يبدو في عضلتها رغم مرونتها ..تيبس داخلي يكمن خلف الجسد يعطي ظل فوضوية وارتباك يميزه متذوق للرقص لا متذوقا لغيره، بمتابعتها تعرف أنها تتبنى أداء الغوازي قديما ذلك الغريزي الإيروتيكي بأوضاع جريئة امتزن بها ومداعبة صريحة للحسية أو للحسية الصريحة بهزات قصدية مبالغة مطولة لأجزاء جسدها في استعراض ونداء إثارة كهدف مبدئي محدد لا عفوي مصاحب.. لكن حتى ذلك تلمح فيه وسط هالة الإبهار تشنجا يزيد أو يقل وافتعالا يلوح ارتباكه حين تطول الحركة يزيح من جديد الستار عن جسد نابه مجتهد حافظ لدرسه لا متعايش مع حالة داخلية ينشئها الرقص الذي في جوهره وإن اختلفت أشكاله حالة قربانية مانحة تغترف من الداخل لتعكس للخارج ، وهو ما يتفق مع تاريخه ونشأته المرتبطة بالطقوس الدينية في المعابد والتي بدأها المصريون القدماء حين كن النساء يرقصن للآلهة للتقرب منها حيث المرأة في مصر القديمة رمز لزوجة الإله ، وهو ما يفسر نزعة شجنية صوفية خافتة تلوح في أداء الراقصات المصريات يبدو أنها مترسبة في الجينات برغم مفهوم الرقص الشرقي السائد ، هذه الصوفية الشجنية لا تعني تعبيرا حزينا في الوجه بقدر ما تبدو جلية في نهايات الحركات وخفتها وخفة سحبها ودرجة خفوت ورشاقة منطقية التنقل بين بعضها وطريقة التمايل في الفضاء المحيط لنشعر كأنما يدفع الفضاء الجسد المتوحد معه لا يدفع الجسد فضاءه ، حتى السكتتات موزونة ومتوازنة ومشبعة وهو ما يعني الانصهار في حالة رائقة ترسم بسمة متعة أو هدوء شجني رائق يمتع مما لا يحققه الانشغال الكامل بالبسمات والضحكات المبالغة والغمزات المستدرجة ولازم الشفاة ولا هزات مبالغة تقطع استرسال حركة وتشبعها فتنم عن فراغ حركي وعشوائية وانفصال عن سياق وهو ما يلازم صوفينار وتلازمه كمن تكبل بحبل لا تفلته رغم العنفوان .
يتضح الأمر بمقارنة بسيطة بين إحدى رقصات تحية كاريوكا أو سهير زكي أو سامية جمال فكل حركة باختلاف طريقة كل منهن تسلم للأخرى بمنطقية انسيابية دون افتعال،أما الأطراف فتعرف أنها موصلات لغة الجسد الكامنة برسوخها وحساسيتها وكونها أدوات التشكيل الأولى فتدرك دورها لا تبحث عن دور تؤديه مكررة نفسها في نوبات فجائية للذاكرة أو الحركة ، فبرغم جماليات مواصفات الجسد والأداء الصوفيناري إلا أن المتتبع لأدائها متغاضيا قليلا عن انبهاره سيلمح آلية تشوب الكثير من حركاتها ؛ حركات متكررة مفرطة بنشاط لم تتشرب إحساسها الضمني وطاقة غزيرة شاردة بلا ركوز أو ميزان أو إيقاع داخلي يضبطها ويرشّدها تعطي إجمالا فوضى جسدية وغوغائية تسعى لقول كل شيء وكبه مع بعضه، ولم لا وهناك إحساس مستعار وثقافة مستعارة رغم الجهد والبريق؛ يفلت زمام تخفيها في لفتات لا تخفى على متذوق حقيقي للرقص الشرقي فكثيرا ما تنهي صوفينار جملتها الراقصة فجأة وتنتقل لأخرى دون انسيابية .. ترتفع يداها في رشاقة لكن حركة الرسغين المتعثران في الفضاء بعشوائية حين إنزالهما يمكن أن تكشفان ما وراء" البيرسونا " وهو تعبير عن الشخصية القناع أو قناع الشخصية يرجع في أساسه لممثلي المسرح ، وفي رأيي فإن حركة الرسغين والأصابع في ختام الجمل الحركية تودع أسرار الراقصة وإحساسها الحقيقي لا المصطنع .. أما حركات دفع الأرجل للأمام وتبديلهما والتي تكثر منها بعشوائية فبرغم مداعبتها المشاكسة للأعين والحواس تحيلنا من جديد لفائض طاقة غير مرشد ولا موجَّه تعود تغفره الأعين إكراما للجمال وشمولية الخلطة ، ولا يغيب في مراقبتها تخبطها بين رقي لغتها الجسدية الأصلية واللغة المكتسبة التي أرادتها لكسب عيشها وشهرتها في مصر أو في بلد شرقي عربي بذوقه المعهود مما يجعل حركاتها متوقعة؛ هز مباغت للأجزاء الفوقية أو السفلية والخلفية وإلقاء شعرها للأمام وترقيص الحاجب والغمز والقفزات الفجائية وسط كل ذلك لن تنسى لحظة أنها في كل لفتة أمام كاميرا أو عدسة ترقص لأجلها ، فهناك صنعة حقيقية لكنها نابعة من "كمبوشة" ملقن أكثر منها من مبدع.
والحقيقة أن صوفينار بوجودها الحالي في المقدمة بما يمثله فنها لعالم كان دائما فيما مضى سفليا قابعا في الظلام أو الخلف أو بعيدا عن بؤر الضوء الأولى سواء في السينما أو الإعلام ؛ تعكس ما صار ميزة عامة حالية لمجتمعنا في تقدم المتنحي بقيمه الضمنية وتتنحى السائد بقيمه الضمنية وكل ما يقترب من فكرة " البطل الضد" ، ولا أتحدث هنا ومن قبل عن معنى قيمي أخلاقي بل فني بذائقة فنية لا حسية ، فتدمج مع الراقصة الغازية بإيحاءاتها المباشرة وحركاتها الجريئة مؤكدة ذلك باختيارها لبيئة منصتها ومكوناتها وموسيقاها ؛ فلا بد من مطرب شعبي يقوم بدور المتغزل والمحفز على التغزل والإثارة يشاركها رقصا أو مداعبة مثيرة على موسيقى مشيطنة وكلمات جريئة تميل للسوقية لا تخل من إيحاءات ينشطها ويفعلها أداء المطرب المصاحب الأقرب للطبال ، فالإمتاع الشهواني هدف لا تخطئه عين..يتخطى الإمتاع الجمالي والفني الذي تحاول تضمينه نسبيا أيضا لتجمع الكل في واحد ؛ الغازية والراقصة ، المصرية والأوروبية ، الشعبية السوقية والراقية .. ناسية أن خلط الأطعام كثيرا ما يذهب المذاق ويفسده ... لكنها الخلطة الصوفينارية .
-
أمل ممدوحناقدة سينمائية ومسرحية