أسفل شجرة الزيتون !! - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أسفل شجرة الزيتون !!

الوصيه !.

  نشر في 06 غشت 2016 .

قبل أيام كتب وصيته ، كانت وصيته أن يُدفن أسفل شجرة الزيتون ، في أقصى الحقل .

الآن هو بأحضان الموت ، والجميع يتحلقون حوله ، وقد خيم الصمت على المكان ، وتكاثفت سحب الحزن والأسى - وانبعث أنين نسائي مخنوق - تغلف المكان بالبكاء والنشيج ، ورائحة الدموع .

قال الأبن الأكبر : سندفنه أسفل شجرة الزيتون ، كما أوصى .

ساد الصمت برهة .

قال الأبن الأوسط وهو يلهوج بالتسبيح وذكر الله يا أخي : هذه بدعة.

صمت قليلا ثم استطرد قائلا : إن دفنه في المقبرة العمومية سيجعله أقرب إلى الله ...

فالعزلة في الموت مكروهة .

رد أحد أبنائه قائلا : سيشعر بالوحشة والوحدة إن دفن بعيدا عن أموات المسلمين ..

قال آخر : من الخير أن يدفن مع الجماعة .

قالت الزوجة: سوف يتعذب إن دفن قريبا منا .. فالأرواح لا تهدأ ، وتقضي وقتها في مراقبة الأحياء ، ومتابعة شؤونهم .. ادفنوه بعيدا كي يرتاح .

قالت ابنته الصغرى : ادفنوه كما أوصى ، لا تبخلوا عليه ب متر من الأرض .. لقد ترك لكم الكثير .

أحد الأبناء : نحن لا نبخل عليه بشيء ،ولكن ....

البنت : ماذا ؟

-- بصراحة .. لن يشتري احداً حقل وفيه قبر .

استغرقت الفتاة في التفكير .. تذكرت ما يمكن أن يؤول له حالها بعد وفاة والدها . وما قد يحل بها من فاقة .

خير لها أن يُباع الحقل ، وتأخذ نصيبها .

قررت أن تصمت ، فيما يشبه الموافقة على رأي إخوتها .

الأب - حاول أن يقول شيئا ، أن ينهض - أن يحتج - شعر كمن يقاوم حلما مزعجا ، وكابوسا مروّعا .

هل هو ميت حقا ؟ تساءل .

إن كان الأمر كذلك فإن الموت عذاب آخر ..

ليت ما يسمعه حلماً ، مجرد حلم .

قال أحد الحضور : يا جماعة : الحي أبقى من الميت ، رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه . ادفنوه مع عامة المسلمين ، فذلك خير له ولكم .

قال أحد الأولاد : سندفنه في مدافن " البساتين " .. في مقبرة قريبة نزوره متى نشاء ، فلا يشعر بالوحدة ، ويبقى مطمئناً راضياً .

قال آخر : لكن "البساتين" ... مُكتظة ، وليس فيها سوى بعض القبور الجاهزة ..

قال آخر : ويطلبون ثمناً باهظا للقبر .

- : ثمنا باهظا للقبر ! حتى القبور يبيعونها ؟ أليس ذلك حراما ؟

دعونا يا جماعة ندفنه في مقبرة نائية غير مكتظة ، كي لا نرتكب إثماً أو معصية ..

- يشعر كأنه يرسف بالقيود والأغلال .. يسمع حديثهم ، لكنه لا يستطيع أن يتفوه بكلمه ، ولا يستطيع أن يتحرك .

يجد راحة كلما خضع واستسلم ، ويكاد يختنق كلما حاول أن يقاوم .

"ميت ! هكذا تخيل نفسه .. بعد قليل سيضعونه على دكة غسل الموتى ..

كي يتطهر من آثام الحياة ومتاعبها ، ويتخفف من أوساخ الذاكرة .. سيقبل عليه الدود بشهية أكبر ، حين يدرك أنه تحلل من خلجات الروح .

يدرك الآن أن وصيته كانت ضربا من العبث .. هو في كل الأحوال سيئول للعدم .. والديدان ستلتهمه حتى لا يبقى منه أثرا ،، فما الفرق بين أن يدفن تحت الزيتونة أو في مكان آخر ؟ لكنه يشعر بالضيق ، ربما لأنه لا يجد له متسعا في الموت ..

أسرف في السعي والعمل ومقارعة الحياة ، فجمع ثروة طائلة ، وأراضي شاسعة ، وعقارات مترامية . لكنها الآن تضيق عن أن توفر له قبراً مناسباً .

مناسباً ؟!

لكن القبور في كل الأحوال غير مناسبة .

ربما كان ينتظر وفاء ودموع وقلوب أدماها الحزن ، ولوّعها الفراق .

أليس من حقه على من ترك لهم كل هذا الميراث ، أن يتشحوا بحزن ذكراه ، وألا يقطعوا حبل الوفاء ؟

يتخيل الآن أن الوفاء كلمة اخترعها الأحياء كي تكون علاقاتهم أكثر طمأنينة .. لكنها لا تعني الموتى في شيء .

هو أيضاً كان يفتقر إلى الوفاء .. لم يجمع ثروته كي يكفي أبناءه شر الفقر ، لكنه كان يجمعها ، كي يتميز عن الآخرين ، فيكون في المقدمة ، ويترك بينه وبينهم خطوات لا يمكن تجاوزها . ، ربما لم يفكر في الموت .. أو بأنه سيترك الأشياء... أو أن الأشياء ستتركه دون أن تذرف دمعة من أسى ، أو تبدي خيطاً من أسف .

كان يعلم أن ثروته ستئول إلى أبنائه ... لكنها ستحتضنه بعد موته ، وستوفر له قبرا ينام فيه قرير العين . لكنه الآن يرى أن ثروته تخونه كسائر الأشياء ، سوف تتبعثر ، ولن تغطي جسده ، ولن تحميه من سطوة التراب وجحافل الديدان ... ستنخره الأشياء حتى النسيان .

حتى الأشجار التي كان يسقيها ماء وعرقاً ، والورود التي كانت تتفتح على ضفاف حلمه ، ومفاوز شوقه .. والأعشاب التي كانت تتكاثف كلما جزّها منجله ، واجتثتها أصابعه الملتوية الراجفة . لن تذكره أو تنتظره ، أو تحفظ له صورة أو طيف .. سوف تتراقص طربا لأول دفقة ماء تنسكب في أوصالها .. وسوف تبث شذاها لكل يد تقطفها وكل عين تزورها .. وستغرد البلابل بفرح أكثر .. وينسكب المطر كي يمحو آخر أثر من خطواته ، فيغتسل التراب من غبار الماضي ، ليحتضن ذكريات جديدة .

يقترب منه أحدهم ، يستمع إلى نبضات قلبه ، ويعلن أنه ما زال حيا .. وأن قلبه ينبض .

يتململ البعض فيما يبدو أن صبرهم نفذ .. فالحياة لها شئون ، تضيق بانتظار الموتى .. كم سيأخذ من وقتهم ؟ غسيلا وصلاة ودفنا وبيت عزاء .

ما زال قلبه يدق : قال أحدهم للمرة الثانية .

شعر بنشاط مباغت ، فتح عينيه على اتساعهما . جال بصره فيمن حوله : رآهم بوضوح .. قرأ دواخلهم دونما عناء : ضيق وتبرم وضجر .

حتى العيون التي كانت غائمة بالدموع ، تخيل أنها تبيع بضاعة مغشوشة ، كي تقبض ثمنا أعلى ، ونصيبا أوفر .

ليس من أحد لا يتعجل موته ..

كأن ليس له الحق في أن يموت ببطء .. أو كأنه يسرقهم وقتهم ، ويحول بينهم وبين مشاغل الحياة .. قد آن له أن يمضي لشأنه دون تأخير .. وأن يترك لهم متسعا من الوقت ، كي يتمتعوا بما ترك لهم .

حاول أن ينهض ، لكن شيئاً يشبه القيد منعه من ذلك ..

حاول أن يقول شيئا ، لكن صوته لا يستجيب ..

كان يريد فقط أن يُغير وصيته ..

كان يريد أن يقول لهم : لا تدفنوني تحت الزيتونة ...



   نشر في 06 غشت 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا