حتى الحرف أصبح يكابر، وصار يشمخ بغرور نائيا بأذياله بعيدا عن مسالك الروح ومساربها. إنها المصيبة الكبرى أن تستجدي حروفك فلا تجيب، تناجيها بكلّ أوزان الحزن والأسى فتبقى في معاقلها معلقة تأبى الخروج إلى العلن. خيانة الحرف أمر جلل لا يمكن الفكاك ولا النجاة منه ، آلام الحبسة قد تصل إلى حد الموت ، والموت صمتا هو أحد أشنع أنواع الموت. لازلت أقف عند أعتابه أناجيه عله يحن.. عله يلين فأتمثله طيفا غاضبا مترددا سرعان ما يأسره الحنين وتأخذه الرأفة فيرد بلهفة بعد طول مكابرة : كلا ماودعكِ حرفكِ وما قلى ها أنا ذا فارس أفكارك حمليني منها ماشئتِ وأنا رهن بوحك وإشارتك. ولكن هيهات أنى لبشر أن يكسر عناد حرف اتخذ قراره بالرحيل او ان يراجع قسوته إن اختار الجفاء شرعة وسبيلا.
في أيام خلت ، كانت الأستاذة تشزرني بنظراتها وانا أطلب ورقة إجابة إضافية أثناء الامتحان ، هذا بالنسبة إليها يعني بتمام المعنى عملا إضافيا، وبالنسبة لي كانت فرصة بوح لا تعوض ، كانت الحروف تأتي كالموج بلا انتهاء سواء بفرنسية أو عربية ، الأفكار تتراص كجيش جرار تنتظر دورها مرة بعد مرة لتتراص على الورق كحروف متعجلة متداخلة ، تلتئم باكتظاظ منتظم وتستقر بوقار على الأسطر تحمل أسفار معانيها معها وتدس تأويلاتها فيما بينها.
في أحد تدريبات الصحافة كنت أسود المقال بتأن وأطيل واستطيل البوح فيه ، فإذا جاء رئيس القسم ورآه بتر ثلثيه وترك أشلاءه تتخبط فلا أفيق على نفسي إلا وأنا أصيح بحرقة كما فعل زياد أمام خالد بن طوبال " أتبتر نصوصي؟ّ" لأكتشف في الأخير أنني لست زياد ولست أمام خالد ولأفيق على أشلائي وقد مرت للنشر بلا عزاء . لازلت أتساءل كيف تُبتر النصوص ؟ كيف تقتطع هكذا بذاك العبث بتلك البلادة؟
هذا النوع الفظيع من البتر نجده عادة في جزارة الصحافة ، يمر النص كالجسد تقطع أطرافه تحذف منه الجوارح تقلّم روحه ويُشذب جوهره ويرسل على عجل إلى النشر وصاحبه ينظر جزعا مبتلعا ريقه لهول ما رآه في تلك المجزرة المريعة، مهما كانت دوافعها ومسمياتها. نصوصنا تبقى جزءا منا حتى وإن تحولت فيما بعد إلى ذمة القارئ، إنها أكبادنا الحبرية التي تمر حية على ورق ، وكلّ ما ولد منها في حالة إلهام يبقى نتيجة فعل خلق كامل ، وبتر حرف منها سيكون كبتر طرف أو كجدع عضو ، بالآلام ذاتها بالصراخ ذاته بلا زيادة ولا نقصان.
كان الحرف سخيا، وكان الكلم يهطل مدرارا كالغيث يروي الروح قبل الورق، إلى أن جاءت لعنة التكنولوجيا التي أنهكتنا فقصرت أنفاسنا ، وتضاءلت نصوصنا لتتقوقع في المربعات الضيقة المعدة مسبقا للبوح العجول. ماذا نحن الآن؟ وماذا تكون نصوصنا التي أضحت أمساخا وأقزاما تمر من حساب إلى آخر.تتكثف ملامحها بلا معنى تحتمل استعارة او اثنتين ثم تتجعلك في نسخة جاهزة للتعليب والاستهلاك السريع.
لهذا فقط أعلن الحرف ثورته ، فلم تعد أنفاسنا القصيرة تسع عنفوانه، ولا مربعاتنا الضيقة تليق بمقامات جنونه . لقد أتعبه تكديس الاختصار ، وأنهكته السطحية والتعجل. لقد رحل عنا الحرف إلى غير رجعة موليا وجهه إلى من يليق بقداسته وجلالته ، رحل بحثا عن متسع ، عن أنفاس طويلة متأنية تهبه أنفاسه وتفرده على كل اتساعه ليطال كل أكوان البوح بامتدادها اللامتناهي.
-
فاطمة بولعناناليوم حرف وغدا حتف
التعليقات
راقني العنوان جدآ, سلمت يداك.