هو حي...
بطريقة ما يشعر بأنه حيّ، و لا زال يلفت النظر إليه كل يوم بغيبوبة مفتعلة ينهي بها تأرجح صراعه الطفولي مع أولئك الطامحين مثله في الحصول على حلمٍ ترتديه وسائدهم الناعمة خلال الليل ...
وكم يحب التعثر بالصدى والمسافات، وأن يتعرض ككل كائن يتفاعل لإغواء السراب، ويسعده كثيراً أن يكون انعكاساً بشرياً للون الغالب في خرائط الجغرافيا!
حي هو ... وبنتيجة حيادية مصقولة ببعض الحظ يؤكد لنفسه ذلك... إذ أنه لم يكن غنيمة حرب عبثية ، ولا فريسة لأوامر ذائقة قد تقف بينه وبين حريته فأصبحت تلك الحياة قيمته التي ولدت من جديد ...
حي هو ...عمليّ وعصريّ ... لم ينتظر كرم البخلاء ورعشة أيديهم حين تتشابك أمامه بحرص كما تفعل تجارب الأيام في مواسم القحط واللؤم والبلاء ... بل عرف كيف يعيش على هامش طريقة تفتقد لجزالة فن الحب وابداعاته... مع اقراره بأهمية أن يكون في الوقت والسلوك نفسه رومانسياً وحالماً فقد أدرك بواسطة لاوعيه المكتسب من تجارب وعيه الموروث أن القليل من الخيال في الاتجاه الصحيح أمرٌ لا غنى عنه ومكملٌ لثلاثية النعيم: الماء والخضرة والوجه الحسن ...
حي هو ولا يشكّ في ذلك وكعادة الواثقين تراه غير مكترثٍ بشأن ما يخبئه من مشاعر المكابرة والعناد في بطانة ابتسامته الباهتة ...
وكأنه نسي فعلاً قدرته على التعبير وبشكل حقيقي ومذهل عن مكنونات نفسه، ومعرفة أن واقعه ليس أكثر من مواجهة بين خيارين: إما أمل وفكرة صادقة وهدف محتمل.
أو استسلام لظلال مزاجية يستقر على كفتها حظٌ سيء واحتقار نفس ...
لكنه حرّ ...
له خياله المزدحم بالأنماط المكررة البائسة، بالنميمة،والإشاعات والأكاذيب ...
وله أيضا ما يبرر ضعف إيمانه بكل ما تقوله أبراج الحظ..
وله من ميزاته الذاتية ما يفسر به إهماله لموهبة لملمة تلك الخطوط الفوضوية لفناجين قهوته الصباحية...
حياته ليست كلها خطأ وليست كلها صواب إلا أنه حي بمظهرٍ كامل ويشعر بأهمية الاعتراف بمركزية الشمس كل صباح كغيره من الكائنات التي تجيد مهارة التمثيل الضوئي وإن كان يتميز عنها بالتأمل الطويل العميق الذي جعله يرتاب أكثر في كل هذا الإطراء والمديح الذي تختال به نفسه يومياً لكن بالطبع دون التغلغل في مدى توافقه مع مصادر ذاته الأصلية...
فهو أبدا لا يحكم على نفسه... ولا يفكر بحياة تهدف إلى شكل أرقى من أشكالها ...ولا يعتقد بالحنين إلى خلود أزلي ..فيا له من متواضع!!
وله تفكيره الناقد، وأسلوبه الخاص الذي يستولي على ذهنه بصيغة متعادلة خالصة ..
حين يطيل التحديق بعيون مقعرة ترتشف ما تبقى له من معالم واضحة وجادة على مرآته...
أو أن يقتبس بتركيز وعمق شديدين من الشيب الذي يلف رأسه بدبلوماسية آخاذه سؤالا ميتافيزيقاً حول صيرورة الوعي يُجَسد به ما تبقى من فكر مقاومة خربشات الجدران لتجاعيد البيروقراطية...
حي هو ويدرك جيداً سرَ طغيان علامات الإستفهام على معظم ما قد يصل إليه من حلول واجابات...
ويعلم بأنه أمامها مقهور وضعيف الإرادة ومضطر إلى العيش في ذاتين منفصلتين الأولى ليجامل بها ما اتفق عليه عامة الناس من تقاليع الوجود حين يفقدون الرؤية والسيطرة ...
والثانية للعودة من حيث أتى... إلى قابلية حدائق روحه السرية على الأخد والعطاء مع أي شيء ذي قيمة ومعنى ....
نعم هو حي ولا يملّ الإستماع للإنذارات التي ترسلها رايات القلق الراسخ في أعماق نفسه قبل ان يبتلع بغُصّة حبة دواء أخبره الطبيب أنها ستثأر له من كل متطفل يظن للحظه أنه قادر على اختراق حصون جسده ... لكنه وكعادة الخائفين جداً بالغ في وساوس الحذر، فأغلق النوافذ والأبواب جيدا ، واغتال بتوحش كل نسمة عابرة خشية أن تكون محمّلة بكائنات تبدو له في دقتها غير مرئية حتى كاد بالفعل أن يموت اختناقاً ..
حيّ هو و لا يخجل أبداً من سذاجة دهشته حين تزف له نشرات الأخبار بسرور بالغ نبأ امكانية وجود حياة على كوكب اكتشف حديثا!
كوكبٌ لا ينتمي إلى مجموعتنا الغبارية التي باتت تعاني من صعوبات في التنفس وارتباك بعد ابتلاع تلك الكميات الهائلة من هوائنا الغبي المكتظ بفنون الإقصاء وأخبار المجازر والحروب والقتال ...
حيّ هو ؟ هكذا يعتقد حتى وإن لم يستيقظ من كآبته ويوازن بين أحلامه وحق من هم خارج أسوار الأمنيات... باقياً على حاله حرفاً ساكناً في اشكالية التناقض لعالمه ووجهه الآخر الذي يشبه ليل غابة استوائية ...
حي هو؟ هكذا يظن في حدسه رغم أنه لم يتجدد بعد بقوة خلاصية تنتزع من قلبه كل نبضة لم تصهر قوانين السماء في تحليقها الحرّ ....
تناقضات تختصر مظاهر الحياة على طريقتها تتجاذب وتتنافر أقطابها بلا توقف حتى تعطي لحركتها فعالية ما...
لكنها لا تجامل الوعي أبدا في نتائجها وبناء على ذلك تتحقق نتائج معادلات الوجود في الوعي "الإستاتيكي" للعقول بإضافة أو إِنْقاص ساعتين على المعدل الطبيعي للنوم .
بينما يعمل الوعي "الديناميكي" للحرة منها على تحويل ليلها إلى نهار لتتمكن من النوم بسلام!
هو حي إذن ؟ ربما
لكنه على الأغلب لن يفعل شيئاً لمواجهة تناقضاته وخوفه وقلقه سوى أن يترك مصابيح البيت مضاءه طيلة الليل !!!!
التعليقات
مقال عميق الفكر و المعنى.. متألقة ... رولا