إن التعليم الأكاديمي ليس شرطا ليكون الشخص في مصاف المثقفين والأدباء، إذ بمقدور القارئ المثقف أن يكون عصامي التكوين ،إذا أحسن اختيار الكتب التي تكون قناة لإرواء فكره، وأداة لصقل مواهبه.و يستطيع هذا القارئ توسيع دائرة معارفه في كل المجالات، شريطة أن ينهل من الكتب بطريقة مباشرة تجعله مستيقنا من معلوماته ومرجعياتها. أما أن يعتمد الشخص على اقتباسات مُتشعِّثة، وفقرات متناثرة، ومنشورات فيسبوكية أو تغريدات لقيطة من هنا وهناك، ثم يعتلي صهوة الفكر ويلبس خوذة المثقف، فذلك ما يؤاخذ على هذا الجيل الذي يهوى حرق المسافات، ويتكاسل في نيل المطالب غلابا .
تطالعنا اليوم الكثير من الاقتباسات ، حتى صارت ثقافة البعض مبنية بالأساس على مقاطع من جمل وعبارات تجعلهم يظنون أن بالإمكان الاستغناء بها عن قراءة كتاب كامل مادام قطف ثماره دانيا..
ويرى البعض أن الثقافة الموسوعية لا تحتاج منا إفناء الوقت في قراءة كتب ومجلدات، خاصة في عصر أتاح لنا الوصول إلى المعلومة بكبسة زر..فهل يجوز إطلاق لقب المثقف على شخص يقتصر في منابع فكره على الاقتباسات والمقتطفات، أو حتى ملخصات الكتب؟ أم أن صفة المثقف قد تنتفي عنه حين ذاك؟
للتوسل بالاقتباس مزايا لاينكرها أحد، خاصة عندما نريد إقناع شخص في موقف محدد وفي وقت ضيق، أو أثناء الحديث العابر عن موضوع، في جلسة أدبية أو محادثة فكرية، يدلي فيها كل بما يعرف ، او في التعليق على موضوع بما يراه مناسبا من أقوال المفكرين والأدباء ..حينها يمكن أن نكتفي بالاقتباس من كتاب مع ذكر المصدر واسم المؤلف ليعود إليه السامع أو القارئ متى أراد ذلك ..وقد ظهرت موجة الاقتباس هذه وانتشرت مع وسائل التواصل الاجتماعي خاصة، أما فيما مضى فقد كان الكاتب يستدعي اقتباسا عند الحاجة إليه لدعم فكرة أو نقدها أو التمثيل لها على سبيل تقوية الموضوع بما يناسبه..ولم يكن الاقتباس من أجل الاقتباس كما هي الحال في أيامنا هذه .
و للاقتصار الدائم على الاقتباس كوسيلة للثقافة سلبيات أذكر منها :
- للاقتباس معنى مكثف لكن لذته مؤقتة، بخلاف الكتاب الذي تقرأ منه ويصحبك وقتا طويلا تنهل منه مدة أطول وتستفيد من صفحاته الكثير، بل إن كل قراءة تفتح أمامك ما استغلق في القراءة السابقة ، وبذلك يكون الاقتباس -كما قلت- رغم كثافة المضمون، مؤقت اللذة، محدود العطاء.
- الاقتباس سريع المرور بذهن القارئ، يبرق بلمعة سريعة الإنطفاء ، فلا يبقى منه في الذاكرة إلا المعنى، بينما تتلاشى الصياغة التي قد تكون أجمل ما فيه .. فإذا أخذ الاقتباس من نص أو مقال أو كتاب تمت قراءته بتمعن كان من السهل الاحتفاظ به في الذاكرة.
-إن القارئ الذي يعتمد على الاقتباس يكون مشتت الفكر، كثير المعلومات، فإذا استدعى فكرة لم تسعفه، لأنه اعتمد في تجميع أفكاره ومعارفه على الكم ولم يعتدّ بالكيف، ولم يأخذ وقتا كافيا لترسيخ كل معلومة قبل الانتقال إلى أخرى.
أيها القارئ الكريم! إن في بطون الكتب ماينتظرك من طيبات يحجب عنك لذتها ذلك الفُتَاتُ الذي يفسد شهيتك ويحرمك من المتعة الكاملة..ذلك أنك تكتفي بقراءة اقتباس قصير يجعلك من رواد عصر السرعة واللذات المؤقتة ..فهل أنت واع بما يفوتك من خير؟
-
عائشة إبراهيم"إذا تمَّ العقل نقص الكلام"
التعليقات
سعدتُ بهذا الطّرح الأنيق.. حييتم..
أما أنا أرى من ينتهج الاقتباس لينير فكره لا يصح إطلاق عليه لقب (المثقف) وإنما (المتصفح)...
بوركتِ عزيزتي.