قراءة جديدة في كتاب الموازنة للآمدي
نشر في 22 يناير 2018 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
ظل النقد العربي للأدب فى جملته نقدا ذوقياً يقوم على الحس الفنى والإدراك العام حتى إذا كان العصر العباسي وصل النقد الأدبي إلى قمة ذروته فلقد ارتقت حاسة النقد فى ذلك العصر كما ارتقت حياة العرب الاجتماعية والعلمية والفلسفية وانبعث النقاد يوازنون بين اتجاهين ظهرا فى الشعر فى ذلك العصر ، اتجاه محافظ وضعوا على رأسه البحترى واتجاه مجدد اتخذوا أبا تمام رمزا له ولقد أقيم بين الاتجاهين مقارنة واسعة نهض بها الآمدى فى كتابه"الموازنة بين أبى تمام والبحتري " الذي يُعد من أهم الكتب التي ظهرت في النقد في القرن الرابع الهجري حيث وضع هذا الكتاب أساساً قوياً لنقد الشعر والموازنة بين الشعراء وهو أول كتاب يتصدى للمقارنة بين شاعرين لا لتفضيل أحدهما على الآخر فقط ، بل لبيان خصائص وميزات كل منهما وتوضيح ما بينهما من اختلافات جوهرية وهو بهذا يكون أول كتاب فى النقد المقارن عند العرب بمعناه العلمى الدقيق.
لقد قرأ الآمدي ديواني الشاعرين واستطاع أن ينزع منهما المعاني المتشابهة ويقيم عليها الموازنة ولا شك أنه كان دقيقاً في تقسيمه للمعاني ، وكان يقوم بتحليل القصيدة إلى عناصرها الأولية ، يقول :" وأنا أبتدئ بذكر مساوئ هذين الشاعرين لأختم محاسنهما، وأذكر طرفاً من سرقات أبي تمام وغير ذلك من غلطه في بعض معانيه، ثم أوازن من شعريهما بين قصيدة وقصيدة إذا اتفقنا في الوزن والقافية وإعراب القافية ثم بين معنى ومعنى فإن محاسنهما تظهر في تضاعيف ذلك وتنكشف، ثم أذكر ما انفرد به كل واحد منهما فجوده من معنى سلكه ولم يسلكه صاحبه، وأفرد باباً لما وقع في شعريهما من التشبيه وباباً للأمثال أختم بهما الرسالة، ثم أتبع ذلك بالاختيار المجرد من شعريهما وأجعله مؤلفاً على حروف المعجم ليقرب تناوله ويسهل حفظه وتقع الإحاطة به إن شاء الله تعالى " هذا الكلام يدل على أن الآمدي قد التزم في عرضه وتأليفه بالكثير من شروط المنهج العلمي الذي نحرص عليه ، وخاصة في مجال الدراسات النقدية التي تحتاج إلى الحدّ من طغيان العنصر الشخصي ، والتزام الحيدة ، وتعليل الأحكام بالأسانيد والدراسة التحليلية ، وألا يصدر الناقد حكماً إلا بعد دراسة موضوعية دقيقة ، وأن يستقصي كل ما كُتب حول موضوعه فيعرض لوجهات النظر المختلفة ويبسطها أمام القارئ .
طبق الآمدى فى موازنته بين الشاعرين أبى تمام والبحتري نظرية عمود الشعر تطبيقا واسعا وجريئا وثريا ، فيرى البحتري يسير مع القدماء فى أدائهم وأسالبيهم وأخيلتهم ومعانيهم وصورهم ويرى أبا تمام يبعد عن القدماء فى ذلك بعداً كثيراً ، وهو فى ذلك ينحاز للبحتري "؛لأن البحتري أعرابي الشعر مطبوع وعلى مذهب الأوائل وما فارق عمود الشعر المعروف، وكان يتجنب التعقيد ومستكره الألفاظ ووحشي الكلام، فهو بأن يقاس بأشجع السلمي ومنصور النمري وأبي يعقوب الخريمي المكفوف وأمثالهم من المطبوعين أولى، ولأن أبا تمام شديد التكلف صاحب صنعة ويستكره الألفاظ والمعاني وشعره لا يشبه شعر الأوائل ولا على طريقتهم لما فيه من الاستعارات البعيدة والمعاني المولدة، فهو بأن يكون في حيز مسلم أبن الوليد ومن حذا حذوه أحق وأشبه، وعلى أني لا أجد من أقرنه به لأنه ينحط عن درجة مسلم، لسلامة شعر مسلم وحسن سبكه وصحة معانيه، ويرتفع عن سائر من ذهب هذا المذهب وسلك هذا الأسلوب لكثرة محاسنه وبدائعه واختراعاته ".
للآمدي موقف خاص من قضية السرقات، فهو على تتبعه لها، يحس أنها ليست من العيوب الكبيرة التى تستدعى أن يذكرها ضمن مساوئ الشاعرين إذ لاحظ ميل معاصريه من النقاد إلى الإتهام بالسرقة الشعرية لمجرد اشتراك شاعرين فى معنى بدهى ، وقد بسط الآمدي أدلته الموضوعية ؛لإخراج المعانى المشتركة والبدهية من دائرة السرقة . وفي هذا التناول المتميز لقضية السرقات دليل على عمق بصيرة الآمدي وسعة ثقافته النقدية .
لقد اتهم كثير من النقاد الآمدى بأنه لم يكن منصفا فى موازنته واتهموه بالتحامل على أبي تمام والحقيقة أن هذا الكلام فيه نظر فالآمدي أورد الكثير من فضائل أبي تمام ولم يتحامل على أبي تمام بدافع شخصي وإنما كان بدافع فنّي، لأن ذوق الآمدي الشعري لم يتفق وشعر أبي تمام ،وقد رأيناه فى السرقات يحتاط ويرد عن أبى تمام وعن البحترى سواء بسواء ادعاءات خصومهما كما لا يمكن إغفال المرحلة التى ألف فيها كتاب الموازنة وهى مرحلة علت فيها راية الموالى من الفرس الذين مكنهم العباسيون من مفاصل الدولة وكانت هناك محاولات لتغيير بناء القصيدة العربية بدواعى التجديد .
وختاماً لقد أردت من خلال هذه الوقفة القصيرة مع الآمدى وكتابه الموازنة أن أتجاوز الجدل بين النقاد حول موضوعية الآمدى إلى محاولة تسليط الضوء على ما أضافه كتاب الموازنة إلى النقد الأدبي ، فهذا الكتاب بمحتوياته يعد واحداً من الكتب المؤسسة لحركة النقد.. ومما لا شك فيه أن النقد العربي القديم يحتاج إلى إعادة نظر لاستخلاص القيم الإيجابية فيه والقابلة للحياة والتي يمكن أن توظف بشكل مفيد في حياتنا الثقافية والممارسات النقدية المعاصرة. وصفوة القول أن المكانة التى احتلتها "الموازنة" تجعل من دراستها ونقدها حجر الزاوية فى أية محاولة لرسم خريطة النقد العربى القديم.