روح .. تصارع الموت
يمتلك كل شخص منا القدرة علي المغالاة في الحديث والتعبير عن إستياءه حيال أمر ما طالما إنه يظل واقفا علي أرض ثابتة وبعيد تمام البعد عن إلحاق الآذي بذاته ، اما عندما يجد نفسه مجبرا علي الإختيار و الوقوف علي أرض رخوه أسفله تبدأ كل كلماته بالتذبذب مع محاولة التشكيك في ما سبق ذكره حتي يظل بمأمن عن أي آذي ، ومن ثم فإن عرض "روح" الذي تم عرضه علي مسرح الطليعة ضمن فعاليات المهرجان التجريبي والمعاصر لمخرجه "باسم قناوي" قد تناول هذة الفكرة الأساسية عند طرحه لعمله الفني .
ليس من اليسير لأي مخرج التعامل مع نص مسرحية إذاعية من أجل إخراجها كمسرحية ممثله امام جمهور و هذا ما تم هنا بتعامل الدراماتورج "ياسر أبو العينين" مع النص الأصلي للعمل و المسمي " الوردة والتاج" لصاحبه المؤلف الإنجليزي "جيه بي برستلي " في شكل مسرحي مع الإهتمام ببعض قضايا المجتمع كرفض بعض الشباب لفكرة الإنجاب و إنسياق المرأة لتابعيه الرجل ..إلخ ، بشكل مبسط يدور العرض في مكان موحد وهو "البار" او كما يلقبه آخرون "حانه" وهنا تتجمع الشخصيات معا والذين لا يتفقون إلا علي شئ واحد وهو كرههم للحياة والإعباء التي يمرون بها ورغبتهم بالموت ، إلا شخصيتان واحدة منهم لشاب متفائل يعمل علي بث السعادة والطمأنينة و الآخري هي مسز آيفي زوجة مستر بيرسي المتشائم ، إلي آن يآتي شخص غريب يطلب منهم تحديد شخص للوفاة والذهاب معه لنعلم إنه ملاك الموت وحينها يتصارع كل كارهي الحياة للتمسك بها والتضحية بالآخرون ويتم الأمر بتضحية الشاب الطيب بذاته والرحيل .
كانت مراقبة المشاهدين بالأعين لمكان العرض هي الوسيلة الأولي لمحاولة فهمه و التنبؤ به ، وهنا بالتحديد يجد المتفرج نفسه أمام فضاء مسرحي جديد صنعه المبدع " محمد جابر" وبوصف أدق يمكن القول أن الديكور أحد أبطال العرض المسرحي ، فقد أصيب المُشاهد بالإرتباك من إمتلاء الفضاء المسرحي بالخمور و الكؤوس مما يؤكد الديكور الواقعي التفصيلي للبار بالإضافة إلي التغيير التام في طريقة جلوسهم ، حيث كان الجمهور محيط بالممثلين من أكثر من جهة مما يجعلنا أحد زبائن هذا البار هذا بالإضافة إلي تقسيم فضاء البار إلي أجزاء متقطعة فلكل من أبطال العرض مكانة الخاص ، فمستر ستون يجلس بعيدا في الجزء الأيمن من صالة البار و تقبع أمامه مسز ريد بجانب الميكروفون والراديو وهو ما يؤكد ربط الديكور بدواخل ومعالم الشخصيات ، وجلوس كلا الزوجين مسز إيفي و مستر بيرسي علي الجانب الأيسر اما السيدة العجوزة مابيك فتجلس في وسط البار ، كان لابد ألا يكون هناك مكان محدد لهاري المتفائل فهو للجميع وليس لذاته يطمئن كل من حوله ويواسيهم ، لنجد فجأة أن الغريب قد آتى من وسط الجمهور .
وتأتي الإضاءة كملكة متوجة لهذا العرض بالإعتماد علي نوعين من الإضاءة وهما إضاءة طبيعية خاصة بقاعة صلاح عبد الصبور و إضاءة آخري صناعية مثبتة علي حواف البار و الطاولات ، أتي إستخدام الإضاءة محصور في منطقتين هما البعد النفسي للشخصيات وظهور شخصية الغريب فبالنسبة للمنطقة الأولي فحينما شعرت مسز ريد بإفتقادها لذاتها كمغنية قديمة غلبت الإضاءة الصفراء المكان و حينما شعر الجميع بالرهبة لقدوم الغريب وطلبه أحدهم للقدوم معه تم الإنتقال إلي الإضاءة الحمراء ، اما المنطقة الثانية فكان للغريب إضاءة خاصة معتمدة علي إظلام و إنارة المكان عند قدومه فجأة مما تسبب في إرهاب جميع من بالقاعة و محاولة تحاشي الجمهور الإقتراب منه عند عبوره وسط الطاولات .
إن رؤية المخرج للعرض تكشف عن هدفه الأساسي في أن كل منا ما هو إلا "روح" مهما يأست وأحبطت إلا أنها تريد تنفس الحياة و البقاء فيها وسماع ما يضفي السعادة إلي قلوبهم ، فالموسيقي الخفيفة و الراقصة التي غلبت العرض أثناء وجود هاري أكدت هذه الرؤية ، بالإضافة إلي صوت "ندي ماهر " المسجل و الذي ملئه الشجن حول وضع المغنية السابقة ووضع باقي زبائن البار .
لعل حديث الزوج عن رفضه للإنجاب هو أحد السمات المنتشرة في هذه الفترة بين معظم الشباب وهو ما يؤكد درجة الضغط المجتمعي التي أوصلتهم إلي هذه الدرجة ، وإن القينا نظرة علي الملابس فهي إما كاشفة عن المستوي الإجتماعي للشخصية و إما كاشفة عن الحالة المزاجية لهم فقد غلب اللون الأسود ملابس الشخصيات فالغريب ما هو إلا كتلة سوداء متحركة تنبض القلب فزعا وبالمثل فستان مسز ريد و مابيك اما مسز إيفي فأرتدت فستانا أبيضا قصيرا يعج برغبتها في الحياة ولعلها هي الأمل الوحيد الذي اراد المخرج وضعه للمشاهدين .
ويجب الإشادة بكشف العرض لطاقات تمثيلية متميزة تستحق الثناء خاصة الغريب "أحمد الرفاعي" الذي كشف عن نفسه كممثل واعد و هاري"عابد عناني" الذي بث الفرحة و الحسرة لكل الحاضرين .
-
Doha Elwardaneyناقدة سينمائية وباحثة