"موت الرجل الوحيد على الأرض" عنوان مثير و ملفت للانتباه لا لطوله و حسب، و إنما لما يحتويه من غموض، عنوانه سرعان ما غمرني شوقا و ملأني فضولا عارما لقراءة الكتاب، مثيرا في نفسي سؤالا من قبل! أيعقل أن يوجد رجل وحيد على الأرض كي يموت ؟ و إن صح ذلك، فمن هو هذا الرجل، و كيف مات ؟ و لما علمت أن صاحبة الكتاب هي من رواد الحركة النسوية في العالم العربي، و إحدى منظراتها، أجج ذلك من رغبتي في إنهائه.

الرواية التي نحن بصدد تقديم قراءة فيها، هي لإحدى المثيرات للجدل في العالم العربي، بسبب كتاباتها ومواقفها وآرائها، هي الملحدة والزنديقة، المفكرة والجاهلة، المناضلة والمناظرة، المحامية والحقوقية، الطبيبة والأديبة، الدكتورة نوال السعداوي، هكذا اختلف الناس في وصفها باختلاف الزاوية التي يقفون فيها، و بتعدد الأيديولوجيا التي ينتمون إليها.

ولدت في 27 أكتوبر سنة 1931م، بكفر طحلة، إحدى قرى صعيد مصر، تربت وسط عائلة تقليدية ومحافظة، عند بلوغها سن السادسة من عمرها ختنت، كبقية فتايات جيلها، و ختان الفتيات عادة هو تقليد مصري قديم. مرت و هي امرأة راشدة من عدة تجارب مع رجال لمحاولة لتكوين زواج ناجح، لكن كل تجاربها الأولى باءت بالفشل، فقد طلقت ثلاث مرات من ثلاثة أشخاص، أما من الجانب العلمي لنوال فقد درست المرأة في كلية الطب في جامعة القاهرة عام 1955م، وحصلت على الباكالوريوس في الطب والجراحة، تعد كاتبة وروائية متمرسة وحقوقية جمعوية ومعتقلة سياسية سابقة، ولها أعمال في حدود الأربعين كتاب قد صدر لها، كرستها للدفاع عن المرأة من منطلق العلمانية، وقد حصلت على عدة جوائز. لها عدة مواقف وآراء لطالما كانت سببا في هجوم الكثيرين عليها، مثل قولها أنها هي ابنة الله، إن تصريحاتها التي عادت خارجة عن السائد في المجتمع المصري و العربي عموما، و وقوفها ضد فرض الحجاب والختان (ختان الإناث) وضد تعدد الزوجات و التضييق على المثليين جنسيا، جعلها تلقى من الردود و الانتقادات ما زج بها في قفص الاتهام لسنين طوال من عمرها، و إن تبريرها كونها امرأة مسلمة ولا يحق لأي كائن كان أن يكفرها لم يقها شر النعوت و الألقاب و لم يسقط عنها أكاليل الإتهام.

إن النظرة السريعة و البسيطة مثل هاته، على سيرتها الذاتية والعلمية، من شأنها تسهيل عملية فهم كتاباتها، ومن ضمنهم هذه الرواية التي سنتناولها في هذه القراءة.

رواية الرجل الوحيد على الأرض متوسطة الحجم، يبلغ طول الكتاب 19.5 سنتمتر، وعرضه 13.5 سنتمتر، ويبلغ عدد صفحاتها 208، والنسخة التي بين يدي طبعت في أهم دور النشر في العالم العربي، في دار الأداب ببيروت، و هي الطبعة السادسة التي صدرت سنة 1999.

إن النظرة المتفحصة البسيطة لغلاف الكتاب، المصصم من قبل نجاح طاهر، من شأنها أن تكشف عن رمزية و دلالة اللون الأرجواني الطاغي على الغلاف، الذي يمثل الأنوثة في أبهى صورها، و رسم المرأة التي تبدو بهيئة و ملامح بدوية منزعجة، يحتل نصف مساحة الغلاف، كما تحتل شخصية المرأة فصول الرواية، و إن هذا لمؤشر على مكانة المرأة و حضورها في كتابات المؤلفة و أعمالها، كما أن المسجد و الغرفة الصغيرة ذات اللون الأسود على يسارها يشكل الإطار و القالب الخارجي للرواية، لوحة الغلاف في مجملها و خارج إطارها تصور المشهد الكلي للرواية من فوق، في إحالة لجغرافيتها.

إن القراءة في هاته الرواية و في أي رواية أخرى ينبغي أن تتخذ شكل التحليل و التفكيك و تأويل المضمون في محاولة لفهم تصور و موقف المؤلفة و قناعاتها الشخصية اتجاه قضية المرأة التي ترافع عنها، و ما تحاول إيصاله عبر نسج خيوط هاته الرواية، بدل شكل التلخيص الذي يعتمده البعض، إيمانا منا أنه لا يمكن تلخيص أي رواية، لأنها تكون مبنية على مشاهد كثيرة ومتعددة، في كليتها تولد صورة معينة، و انطباع شخصي لدى القارئ، وأي محاولة لتلخيصها من شأنها أن تهدد صرحها، و تقزم مشاهدها و تبتر أحداثها المترابطة، أو ربما تلغي بعضها بنية أنها غير مهمة، مما قد يؤدي إلى تكون صورة مشوهة بعيدة و مخالفة لتلك التي أرادت المؤلفة وضع القارئ فيها.

على هذا المبدأ و بواسطة فهمنا للرواية، سنقف على القضية المعالجة أو الرسالة التي أرادت أن توصلها صاحبة الرواية.

معروف لدى الجميع أن نوال السعداوي قد نصبت من نفسها محامية ومدافعة عن حقوق المرأة العربية بشكل عام والمصرية بشكل خاص، والرواية موت الرجل الوحيد على الأرض ماهي إلا محطة من المحطات التي وقفت فيها نوال لتنتصر للمرأة، ووبالتالي لنفسها التواقة للتحرر من قيود المجتمع و سجنه.

صورت نوال المرأة في روايتها في صورة المظلومة والمهضوم حقها والمستغلة جنسيا ومهنيا، صورة سوداء قاتمة قد وزعتها نوال على عدة شخصيات أنثوية يختلفن من حيث الأسماء والأدوار، لكنهن يلتقين جميعا في صورة الظلم والاستغلال، عكس الصورة التي أعطتها نوال للذكر في الرواية، الظالم ،المتجبر ،المستغل والمكبوت جنسيا، ولعل شخصية "العمدة على قرية كفر الطين" كانت أسود صورة، لتكتمل فيه كل ملامح القبح من الاستغلال للدين، والسلطة، والنفود من جهة، والاستغلال الجنسي للفتيات القاصرات من جهة أخرى، و حتى شخصية المرأة في رواية نوال نالت حظها من سواد وقبح كباقي الشخصات الذكورية الأخرى، ولو بدرجات. ولعل القارئ الفطن للرواية سيرى أن تجبر بعض الذكور لم ينحصر مداه في الشخصيات الأنثوية فقط، بل سيرى أن الظلم قد لحق حتى بعض الشخصيات الذكورية الأخرى في الرواية، غير أن نوال قد سلطت الضوء إلى ما تتعرض له الأنثى بشكل خاص عكس ما لحق بعض الذكور، حيث نقلت حالتهم بشكل عارض، و مرت عليهم مرور الكرام.

أيضا جعلت جل الشخصيات الذكورية في روايتها مكبوتين جنسيا بل جعلت البعض منهم يعاني من الشذود الجنسي، ولم تحصر هذه الصورة القبيحة فقط في الشخصيات الذكورية الشريرة بل تقريبا عممت هذه الصورة على جل الذكور أشرار وأخيار، ومن بعض تلك الصور:

صورة الشيخ حمزاوي الطاعن في السن الذي تزوج فتاة قاصر، في مشهد بئيس صورته نوال يفض غشاء بكارة زوجته القاصر بأصبعه فوق ظهر الآثان وهو يزفها إلى بيته.(ص51)

مشهد كفراوي وهو يمارس الجنس مع الجاموسة ــــــــ البقرة ـــــــ (ص72)

صورة لا تقل بشاعة عن سابقيها ليوسف وهو يغتصب ابن عمه دو العشر سنوات. (ص77/78)

مشهد مقرف لمتولي وهو يسرق الكفن لميت مدفون بعد أن أخرجه من قبره ومارس الجنس مع الجثة. (ص88)

العمدة وهو يستغل زينب القاصر جنسيا كما فعل مع الكثيرات من بنات القرية.(ص149/150)

هي مشاهد رسمتها الكاتبة لغاية في نفسها، ولربما هي نية واضحة تتمثل في تشويه صورة الرجل بأسلوب انتقامي وضفته نوال في روايتها.

ختمت روايتها بمقتل ذلك الذكر الذي مثلته في شخص العمدة، الذي تجبر وتسلط على أهل القرية، كما لو أنه الرجل الوحيد على هذه الأرض، على يد أنثى ــ زكية ـــ ليسقط على الأرض ويسقط ظلمه وتجبره واستغلاله معه.

وتبقى نهاية الرواية نهاية مفتوحة يمكن فهمها على عدة أوجه متعددة.

الرواية نسجت خيوطها ببراعة، متقنة من حيث اللغة والأسلوب، مركزة من حيث التشييد و البناء، تخطف أنفاسك و انتباهك لتغمرك بفيض شعوري حانق، تدفعك للترقب و الانتظار تارة، و للرحيل غوصا معها تارة أخرى، تفاجئك عند كل منعطف، فتكاد لا تشعر بانتقالاتها من صورة إلى أخرى، كتبت بلغة بالغة السهولة و الوضوح، خالية من أي حشو أو إطالة بغير لازم. أسلوبها أسلوب سلس، انسيابي، كأنها تحملك بكلماتها و جملها على بساط من ريح، تسافر بك إلى مكان كل حدث من أحداثها لتجعلك تراقب عن بعد و عن قرب، في قلب كل مشهد من مشاهدها، بعيدا تارة و قريبا تارة، من ملامح شخصياتها و حركاتهم، فتشعر بحالاتهم النفسية و هواجسهم الداخلية، و ذلك دون أن يدروا بوجودك أو يكتشفوا أمرك، في قالب روائي بديع، مع تحفظي على ماجاء في المضمون، وأنصح بقراءتها.