تبسيط حقوق الإنسان لغير المتخصص -1-
أساسيَّات
نشر في 04 يونيو 2015 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
ماذا نقصد بحقوق الإنسان؟ ما هي خصائص هذه الحقوق؟ على أي قيم و أفكار تتأسس؟ من أين جاءت، و أي مسارات اتخذت لها أثناء رحلتها الطويلة و الصعبة؟. سنحاول الإجابة عن بعض هذه الأسئلة في هذا المقال و البعض الآخر في مقالات أخرى لاحقة. لكن قبل ذلك، تساؤل ذا دلالة اصطلاحية يفرض علينا نفسه: هل نحن حقا بصدد التحدث عن حقوق البشر كل البشر؟..
في لغات أخرى، لم يكن ليطرح تساؤل كهذا أي مشكلة. في اللغة الألمانية على سبيل المثال تشير لفظة مينسشنريخت بوضوح إلى حقوق البشر. نفس الشيء بالنسبة للغة الروسية لفظة برافا شيلوفيكا تعني أيضا حقوق البشر. في اللغة الانجليزية اليوم لفظة هيومن رايتس، أي حقوق البشر هي السائدة. مع ذلك لم يكن هذا هو الحال دائما. حتى تاريخ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أي إلى حدود سنة 1948 كانت اللفظة السائدة في الأوساط الناطقة باللغة الانجليزية هي حقوق الرجل. التغيير الاصطلاحي الذي حدث بعد صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان دشَّن لبداية مرحلة جديدة و مختلفة كليا عن السابق. الحقوق تعود إلى كل البشر، ليست امتيازا للرجال و حسب بل النساء أيضا.
في المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نقرأ " كل البشر يولدون أحرارا و متساوون في الكرامة و في الحقوق.. ". في المقابل، المادة الأولى من إعلان حقوق الإنسان و المواطن لسنة 1789 نقرأ " يولد الناس ويعيشون أحراراً متساوين في الحقوق. ولا يمتاز بعضهم عن بعض إلا فيما يختص بالمصلحة العمومية (أي أن نفع الجمهور هو قاعدة الامتياز) ". الإعلان، حسبما تم تفسيره في البدء، اعترف بحقوق الرجال ولم يولِّ أهمية لحقوق النساء أو يعمل على إلغاء الرِّق.
الهدف من هذا المقال ليس الحديث عن حقوق النساء مقابل حقوق الرجال أو الأقليات مقابل البشرية ككل، بل الحديث عن حقوق البشر كل البشر..
" حقوق الإنسان هي حقوق ذاتية، يضمنها القانون الدولي و تهدف الى حماية الاحتياجات الأساسية للجنس البشري. كما أنها تمثل الحد الأدنى من الحقوق مقارنة بما تعد به الضمانات الوطنية.. ".
لنتناول على حدا كل عنصر من عناصر التعريف التالي. الحقوق ذاتية بمعنى أنها امتيازات تمنح لصاحب الحقِّ الحقَّ في أن يلزم طرفا آخر بحقه. الحقوق الذاتية تفترض دائما و جود علاقة بين طرفين. الطرف الأول: صاحب الحق، المفيد من الحق. الطرف الثاني: الملزم باحترام الحق. من جانب لدينا الحقوق و من جانب اخر هناك الالتزامات. لكن، من هم حقا أصحاب الحقوق و من هم الملزمين باحترامها؟
الأفراد على العموم و اعتبارا لشخصياتهم المادية هم ذوو الحقوق و المفيدين منها، دون أي تمييز على أساس الجنس، اللغة، الدين، اللون أو الطبقة. لكن ماذا عن الشخصيات المعنوية. هل تستطيع مقاولة تجارية أن تفيد من حقوق الإنسان. قد يختلف اثنان أو أكثر بشأن هذا الأمر. مع ذلك، أعتقد أن جريدة ما تستطيع أن تفيد من الحق في التعبير و الحرية في إبداء الرأي إذا ما تعلق الأمر بمصادرة أعدادها أو بتشريع قوانين تهدف إلى التضييق على الحريات بصفة عامة. غير أنه حينما يتعلق الأمر بحقوق أخرى، كالحق مثلا في الحياة أو في عدم التعرض للتعذيب يصير من الصعب الإدلاء برأي قطعي و نهائي بخصوص هذه المسألة.
تمثل الدولة بجميع أجهزتها الطرف الثاني الملزم باحترام الحقوق. لماذا الدولة بالضبط و ليس أي طرف ثانٍ اخر. تجد هذه المسألة تبريرها في مجموعة من الأحداث التاريخية التي تفسر تاريخ تطور و نشأة الدولة الحديثة كما نعرفه اليوم. هذا التاريخ سنعود إليه في وقت لاحق. بإيجاز، ظلت الدولة حتى عقد من الزمن تمثل احتكارا للقوة، سيادة مطلقة و تهديدا مباشرا يمس حريات جميع الأفراد: تعتقل الدولة الأفراد بغير حق، تحاكمهم، تصادر أملاكهم و تذيقهم شتى أنواع التنكيل الجسدي و النفسي. حماية الأفراد من تعسف و شطط الدولة في استعمال السلطة تبلورت إذن كرد فعل و كفكرة، عبر تاريخ طويل من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. لكن ماذا بشأن الفاعلين المعاصرين الآخرين غير الدولة. ماذا عن الشركات المتعددة الجنسيات التي تترك أنشطتها آثارا وخيمة على الصحة و على البيئة. ماذا عن الجماعات المصنفة ضمن دائرة الإرهاب و التي تهدد أسمى حق بالنسبة للحقوق ككل، الحق في الحياة.
في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نقرأ ".. الإقرار بما لجميع أعضاء الأسرة البشرية من كرامة أصيلة فيهم، ومن حقوق متساوية وثابتة، يشكل أساس الحرية والعدل والسلام في العالم ". الإقرار بأن الحقوق تعود لجميع أعضاء الأسرة البشرية يمنحها صفة العالمية، و يجعلنا ننظر بالتالي إلى الإدعاءات المتعلقة بالخصوصية الثقافية على أنها محض هراء وطني سياسوي لا غير. الثبات يعني عدم القابلية للتعديل، التغيير أو الإلغاء. الحقوق لا يمكن المساس بها على أي حال من منطلق أنها تمثل الضامن لكرامة كل فرد. المساس بها يعد مساسا مباشرا بالكرامة و بالوجود الإنساني ككل. غاية الحقوق أن تضمن للإنسان كرامته، أن تحفظ له ماء الوجه و أن تجنبه الاستغلال و تقلبات الضرورة. مع ذلك، الثبات لا يلغِ واقع المساس بالحقوق، انتهاكها و الاستهتار بها. كيف نحمِ الحقوق، و آية آلية تجعل التصدي لواقع مثل ذاك ممكنا.
السؤال السابق يقودنا إلى العنصر الثاني من عناصر التعريف، الذي افتتحنا به مقالنا هذا: "..يضمنها القانون الدولي". لكي تكون حقوق الإنسان ذات اثر فعلي في حياة الأفراد لا يكفي أن تكون مجرد حقوق ذاتية فحسب، بل يجب أن تتعدى ذلك إلى أن تصير واقعا ملموسا، كيانا أو منظومة قائمة الذات. إن الجهود المبذولة لأكثر من 60 سنة من طرف مختلف الفاعلين الدوليين لأجل أن تدمج حقوق الإنسان في المنظومة القانونية -كما هو الحال عليه اليوم- يجب أن ينظر إليها باحترام و تقدير بالغين. مع ذلك، بذل المزيد من الجهد و العمل على أن تصير حقوق الإنسان ثقافة عالمية بامتياز، عابرة للأقطار و للقارات ضرورة لا منداح عنها إذا أردنا أن تصير الحرية، العدل و السلام أسس للتعايش في هذا العالم.
تهدف حقوق الإنسان بصفة عامة إلى حماية الاحتياجات الأساسية للجنس البشري. نحن هنا إزاء العنصر الثالث من التعريف. بإيجاز، الفكرة التي تنتظم مسألة حقوق الإنسان ليست ضمان حرية عامة بل توفير إمكانات للفعل و السعي نحو الحرية. ضمان ما هو أساسي يعني حماية الاحتياجات الأساسية التي تكفل الحياة و الازدهار للجنس البشري. لكن، كيف نحدد ما يدخل ضمن هذه الاحتياجات الأساسية و ما لا يدخل ضمنها. ماذا عن الحق في التدخين مثلا، الحق في امتطاء الأحصنة، الحق في امتلاك الأسلحة، الحق في عدم امتلاك حق، و اللائحة قد تطول. رسم الحدود بين ما هو أساسي في الحقوق و ما هو غير أساسي أو إضافي عملية ليست بالسهولة التي قد نتخيل. مع ذلك يجب القيام بها. لماذا، لأن الهدف من وراء عملية كهده أن نتجنب أي تمييع محتمل للحقوق. يقترج أحد الأكاديميين في هذا الصدد أن نقوم بمراقبة جودة الحقوق: الحقوق الأساسية في اعتقاده هي مثل الخمر الجيد. في حين أن الحقوق الغير الأساسية هي خمر مغشوش.
مثال:
_حق الابن الأكبر الذكر في أن يرث الملك من أبيه كما هو الحال في معظم الأقطار التي تتبنى الملكية كنظام سياسي للحكم.
_الحق في حمل السلاح كما في دستور الولايات المتحدة الأمريكية.
هذه الحقوق ليست حقوقا أساسية و القانون الدولي لا يضمنها رغم أن معظمها حقوق دستورية وطنية. هناك حقوق كثيرة لا تهدف إلى حماية الإحتياجات الأساسية للجنس البشري و ليست من حقوق الإنسان في شيء رغم ذلك نجدها في الدساتير الوطنية للعديد من البلدان و الأقطار. القرار رقم 41/120 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة يحدد مجموعة من المبادئ التوجيهية لدى وضع صكوك دولية في ميدان حقوق الإنسان. ينبغي لهذه الصكوك أن تتسم على العموم بما يلي:
_أن تكون متسقة مع مجموعة القوانين الدولية القائمة لحقوق الإنسان؛
_أن تكون ذات طبيعة أساسية و تنبع من الكرامة الأصيلة للإنسان و قدره؛
_أن تكون دقيقة بالقدر الكافي لوضع حقوق و التزامات قابلة للتحديد و التطبيق؛
_أن توفر، حسب الإقتضاء، الية للتنفيد الواقعي و الفعال بما في ذلك نظم الإبلاغ؛
_أن تجتذب التأييد الدولي الواسع؛
و أخيرا، بالنسبة للعنصر الرابع و الأخير من التعريف الذي اقترحناه. الفكرة التي تنتظم هذا العنصر لا يجب أن تفسر مبدئيا على نحو خاطئ: بمعنى أن للحقوق الدستورية الأولوية على حقوق الإنسان. تمثل حقوق الإنسان الحالية كما نعرفها الحد الأدنى من الحقوق و للدساتير الوطنية كامل الصلاحية في أن تغني رصيدها في مجال الحقوق بشرط أن تكون حقوقا ذات طبيعة أساسية و تنبع من الكرامة الأصيلة للإنسان.