تتحمل الشجرة قطع الأغصان لأنها تتفاءل خيرا بميلاد أخرى. لكنها تهوي بلا تردد إذا اقتلعت الجذور. كذلك الإنسان يتمسك بالحياة مادام يؤمن بجذوره، ويتمسك بثوابته وبذور انتمائه؛ فإذا هبّت ريح واقتلعته، يفقد كل معنى للحياة وكل رغبة للوجود، حتى وإن تظاهر بأنه موجود!
إحدى أضرار العولمة التي تغلغلت في تفاصيل حياتنا، أنها منحتنا هوية كاذبة. نعم صار العالم قرية واحدة، لكن أليس من الأجدى أن يظل لكل بيت في هذه القرية مفتاحه الخاص، وطلاء جدرانه المميز، واحتفال يومي بالانتماء للمقيمين داخله؟
كان في كل بيت عربي جد أو جدة يؤديان رسالة بالغة الخطورة. إنها رسالة الجذور التي تكشف لك أسرار هويتك وانتمائك، بدءا بطباع القبيلة أو العشيرة، ووصولا إلى أغنيات الفرح والحزن، والتوابل الخاصة لأطباق الطعام.
وتحت ضغط حياة معاصرة، انتقل الفرد من بيت العائلة، حيث النسيج المتجدد والعلاقات الدافئة، إلى الشقة التي اتسعت بسببها الشقة بين المرء وجذوره. فأصبح الجد والجدة صورا معلقة على جدار؛ كائنات موسمية يزورها الصغار في الأعياد كأنها من لوازم الفلكلور الشعبي.
مظاهر افتقاد الإنسان لجذوره متعددة، وصورها في المجتمع تتزايد يوما بعد يوم، لتضعنا أمام تجليات اغتراب جديد يبدأ من داخل الأسرة. فالطفل يجب أن يتلقى تربية وتعليما يؤهلانه للانخراط في مجتمع عالمي يتجاوز حدود بلده، لذا عليه أن يتعلم اللغات الأجنبية، ويتلقى تعليما يتناسب مع احتياجات سوق كونية متجددة.
واللاعب الذي شكّل جزءا من هويته مع ناد رياضي في بلدته أو حيه، سرعان ما تدفعه عوامل الشهرة والنجومية إلى التخلي عن أي انتماء، ليصبح قميصا تتداوله الأندية العالمية، وتعرضه في بورصة الرياضة كلما ارتفعت الأسعار.
والفنان الذي كان وفيا للون فني يشكل جزءا من هويته وجذوره، سرعان ما يندفع لتقليد كل الألوان الأخرى بداعي الانفتاح والتجريب، فتضيع ملامحه الأصلية حين يصبح نسخة مقلدة، عائمة على السطح، وصالحة لكل استعمال.
والسياسي الذي يشكّل انتماؤه الحزبي جزءا من هويته، يندفع بكل برود إلى ارتداء معاطف حزبية كانت حتى وقت قريب تتعارض مع انتمائه السابق. هكذا يغير الاشتراكي جلده ليصبح ليبراليا، ثم ينتقل إلى مربع الإسلاميين حين يصبحون الأقرب للسلطة، ثم يتراجع إلى خانة اللامنتمي حين يفقد البوصلة، وهكذا دواليك. ونحن اليوم نتابع في أرجاء الوطن العربي مشهدا سياسيا يصعب علينا تصنيفه، بسبب افتقاد رجل السياسة لحس الانتماء الذي يستمده من الجذور.
والكاتب الذي يشكل قلمه تجليا لهويته، صار اليوم خادما لمن يدفع أكثر، وباحثا عن أسباب الشهرة والنجومية لقاء دعم أي توجه يغدق عليه المال والألقاب. يحكي العارفون بأسرار النشر في الوطن العربي أن بعض دور النشر صارت تملي على كُتاب معروفين طبيعة المواضيع التي يجب أن يطرقوها في مؤلفاتهم، ونوعية الطلب الذي يزداد في سوق القراءة. حتى صارت أقلام متخصصة في دعم كل ريح تسعى لنسف ما تبقى من ثوابت أمة بأسرها.
هذا الاقتلاع المبكر من الجذور حوّل الفرد في العالم المعاصر إلى كائن "نطّاط"؛ يبحث عن منفعته في أي مكان وبأية وسيلة. لا يهمه أن تنسجم المنفعة مع الجذور والثوابت أو تتعارض معها. وانخفض منسوب الولاء، وتحمل المسؤولية، والوفاء بالالتزامات، لأن وازع الانتماء الذي ترعاه الجذور، تعرض منذ الطفولة للتشويه بداعي الانفتاح والعولمة، وارتداء زي المواطن الكوني الذي يضيق بحدود الوطن.
صار حلم أجيال بكاملها هو الهجرة، والفرار من وطن لا يوفر أسباب الأمن والعيش. رغم أن الفردوس الذي يحلمون بدخوله هو حصيلة تدافع بين أبنائه وعوائق تقدمه وازدهاره. لكن ما يثير المفارقة المؤلمة أن هذه الأجيال نفسها سرعان ما تبدأ بالشكوى من افتقادها للجذور، وحاجتها بمن يُذكرها برائحة الوطن وتربته وأحضانه.
ولا يزال "النطّاط" حائرا بين عالمين: عالم تمتد فيه جذوره، لكنه بحاجة لنفخ الروح في أطرافه المتيبسة، وعالم يقدم أسباب العيش، لكنه عيش بلا طعم، ولا رائحة!
-
حميد بن خيبشكاتب شغوف