إنها المرة الأولى التي تواجه فيها الموت بهذا القرب، فكم هربت من فكرة الموت هذه، ليس بسبب الخوف على نفسها، ولكن لخوفها من الفكرة في حد ذاتها، كيف يكون هناك شخص له حياة كاملة، تراه يومياً أو أحياناً أو ربما لم تقابله مطلقاً ولكنه موجود، وغالباً يرى الموت بعيداً كغيره، وإذا بالموت يفاجئه على غير بغتة، ويأخده من الحياة بمنتهى السهولة، وفي كثير من الأحيان لأسباب تافهة.
لم تفهم أبداً كيف يحدث هذا، ولم تصدقه، وحتى عندما رحلا عنها إثنتان من الأقارب منذ سنوات، لم تصدق هذا إلى الآن، ولم تستوعبه، ولكن كانت هذه المرة مختلفة، لم يكن قريباً من رحل، ولكن كل شئ بدأ أمام عينيها.
كانت تقف في الشرفة تراقب المشهد بقلب وجسد مرتجفين، وكانت الساعة لم تتعد السادسة والنصف صباحاً عندما سمعت لجلبة جعلها تتنتفض من الفراش، وتذهب مهرولة إلى الشرفة لترى مصدر الصوت، فرغم أنها ليست بعادتها التطفل، ولا يثير فضولها مشاهدة الشجارات، ولكنه لم يكن شجاراً، كانت أصواتاً متداخله تثير الفزع.
لقد راقبت المشهد منذ البداية، الساعة لم تتعد السادسة والنصف صباحاً، جلبة كبيرة جذبت الناس، ثم الطبيب، ثم يخرج بعد دقائق متبوعاً بعويل ونحيب يملأن الأرجاء.
كان المشهد كفيل بصدمتها وارتجاف جسدها بأكمله، وكان أخاها قد تبعها ليرى ما يحدث، فبدأ يسألها مذعوراً: من توفى؟
-لا أعرف، ولكني أظن أنه الحارس، لأن بقية عائلته كاملة موجودة.
_لا حول ولا قوة إلا بالله، لقد كان مريضاً، وقد خرج لتوه من غرفة العمليات، لقد قابلته أمس، وكان يسير بعكازين من الألم.
لم تقو على الرد، فقط شاهدت المشهد بصدمة، فقد كان رجلاً طيباً.
بعدها بقليل فوجئت بباب المنزل يدق، وفتح أخاها، وعلمت أنهم في العمارة يجمعون النقود ليعطوها لزوجته لمصاريف نقله ودفنه، فتفاجئت بوالدها يعطيهم خمسين جنيهاً.
فقالت له: ولكن هذا قليلاً جداً يا أبي.
فإذا بأبيها يتذمر عليها وينقلب وجهه.
فعادت لتقول بصدمة: لقد مات الرجل!
وإذا به يرد: سنموت جميعاً يوماً.
فعادت تتوسل له أن يعطيهم على الأقل مئتا جنيهاً، فهذا أقل ما يعطى في تلك الظروف.
فإذا به يرد بعصبية: ولما لم تعملي أنت لتجلبي النقود، هل أنت من ذوي الحاجة؟!
صدمتها الكلمة، فتركته ودخلت غرفتها، تذرف الدموع من هول الموقف، وهي لا تستطيع أن تصدق أن هناك أناس بلا قلب كهذا، لقد كان الموقف برمته يرجفها، في حين كان والدها يتعامل مع الموقف بلا مبالاة، وكأنه معتاد على الموت، أهناك أناس حقاً اعتادوا عليه من كثرة وقوعه في حياتهم؟
انتهى الموقف، ومرت السنوات، واختفى المشهد في مكان ما في الذاكرة كغيره، ولكنها لم تنس جملته: هل أنت من ذوي الحاجة؟!
وكلما تذكرتها شعرت بجسدها بأكمله عاجزاً حقاً عن الحركة.
-
ياسمينخلقت لأعبر بقلمي عن فكر أبنيه.