درس المقبرة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

درس المقبرة

مقال

  نشر في 08 أبريل 2015 .

درس المقبرة

في شارع مثقل بالبنايات الشاهقة... كانت الحركة دائبة، سابلة سوقية، تجوب الشارع لتخترق دروبا قذرة. هناك بار قديم به معربدون...

كتائه أقطع الشارع بلا وجهة، أصل إلى مفترقه، ألف عبره حتى نهايته. لا أتجرأ على ولوج الدروب الضيقة التي تعج بالداعرات والمعربدين. عبوري قد يجعلني عرضة لمغازلات بنات الهوى، أو تحرش بعض السكارى، فأرى وأسمع ما لا أحتمله في هذا اليوم التاريخي...

نزلت في مقهى شعبي، طالبا براد شاي وخبزة حافية. أكلت ما قسم الله، وحمدت الله كثيرا...كثيرا ... كثيرا... حتى تكلم بطني من الشكر في صوته رائحة لم تحتملها خياشيمي...

بعد تفكير طويل، قصدت بيت سيدة تقطن في الدروب الضيقة التي تمور بنساء جميلات شاحبات وبأطفال شبه عراة يلعبون في المجاري القذرة. كانت السيدة تسكن بيتا من غرفتين، تتوسطه باحة المسكن دالية عنب. سيدة تضع على ذقنها وبين عينيها وفي يديها وفي رجليها وشما قاني الخضرة. صوتها فيه بحة رجالية. سيدة قاربت الخمسين، لكنها مصرة على الفسق المبين. أشعلت سيجارة أمامي. لأول مرة أجد نفسي أمام موقف مماثل.

في حديث عام، طلبت منها الصعود إلى غرفة صغيرة لأسترجع حنين ذكرياتي، التي باعها والدي مع المنزل... دون مقدمات أو استشارة... فالعقار ملكه، ونحن جزء من أثاثه...

سمعت وشوشة في البهو. البيت مفتوح لفتيات يدخلن ويخرجن، يرافقهن في بعض الأحيان أشخاص شاعت أطرافهم من الكسل والرتابة، حتى أضحوا أشباه الرجال. لا يعبئون بمن يرى ويسمع، يقبل الرجال الفتيات، يلجون معهن الغرف المجاورة،...

ارتسم أمامي أمل في نفق مظلم... سحبت ورقة نقدية، تسلمتها على عجل، مرددة أمامك ساعة، لتغادر المكان... فأصحاب الوقت قد يحلون في أي لحظة... انتبه جيدا... صعدت الدرج مسرعا، غير آبه بعبق اللحظة...

كبرت في بيت يجاور المقبرة، منظر الدفن جعلني صامتا طيلة طفولتي ومراهقتي. كنت طفلا يطل من نافذته ليرى بكاء الآخرين. بكاء النساء الممنوعات من حضور دفن أطفالهن، أزواجهن وأمهاتهن. حتى حضور الدفن ممنوع على النساء في هذا الوطن الجاحد، فقط يقبعن خارج المقبرة في جلابيبهن المنفوشة ويصرخن. يبكين بشكل بدائي، هستيري ويصرخن أكثر كلما اقتربت إحداهن لشد العضد...

هناك آلام لا يقدر الآخرون على اقتسامها معنا، ولا يستطيع أحد التخفيف منها...

هكذا تعلمت درس المقبرة، أن لا أستجدي تعاطف الآخرين... فقط أنظر للحياة وحوادثها بعيني المجردة، وأراها كما هي هاته الحياة... مهمة صعبة فقط...

غابت الشمس وبدأ المساء يبرد... لم يمهلني العياء. نمت على كرسي استوطنته أمام النافذة... راحة يد تطبطب على كتفي في حنان زائد... أستفيق من زحمة النوم...

أجد نفسي في موقف حرج، أمام رجل من أهل الوقت، يحمل نظارات طبية، مفرط الأناقة، مفرط الاعتداد بنفسه، يحتسي سيجارة بنكهة فيها مبالغة، كاد قلبي ينخلع...

رددت في قرارة نفسي: يا فتاح، يا عليم، يا رب يسر، فل أعوذ برب الفلق، ويل لكل همزة لمزة... الخ.

رحت ضامرا في صدري حربا ضد أهل الوقت، قد تقع بلا ريب ليتشكل واقع جديد...

سعيد تيركيت

الخميسات - المغرب - 08 / 04 / 2015 



   نشر في 08 أبريل 2015 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا