جاء اللقاء الأول في ربوع جامعة حلوان، وقد حمل نسائم المستقبل؛ فطرقت أبوابه المغلقة، ودلفت أسير في غير كللٍ أو ملل. مع يومٍ دراسي امتد حتى بعدما لملمت الشمس أذيالها، وجدت الفرصة سانحة للتعرف عليه؛ فداعبت عيناي بعض كلماته، ولكن لم ينتهِ الأمر عند ذلك، فوجدتني أتيت على جميع صفحات الكتاب في جلستي أمام معامل كلية العلوم بجامعة حلوان.
أذهلتني الحبكة الدرامية التي نسج بها هذا "الغراب" قصته، فمن يكون هذا الغراب؟! وما قصته؟! كان هذا السؤال الذي استحوذ على تفكيري لفترة، ثم جمعت عنه بعض معلومات متناثرة ومضيت في دروب الحياة!! بالأمس القريب سألني بعض الأصدقاء عمن قرأت لهم من الأدباء؛ فذكرت من بينهم "الغراب"... وكانت دهشتي أنهم لم يسمعوا به من قبل، على الرغم من أنهم يعشقون الأدب والكتابة. طلبوا أن أوجز لهم شيئًا مما قدمه الرجل؛ فكانت هذه الكلمات!!
لا يمنعك من بلوغ هدفك في الحياة إلا أن تتكاسل عنه، وربما تدفعك الأقدار إلى هدفك رغمًا عنك، كما أن البيئة التي تحيط بها نفسك تسهم في تشكيل أفكارك وتؤثر على حياتك؛ فلا تهمل هدفك بالتشاغل عنه وثق في قدراتك. النجاح ليس له موعد محدد ولا سن معينة؛ فامتطي جواد العزم وانحت الصخر لتصنع طريقًا يوصلك لما تريده، ولا تتعجل النتيجة وإن طالت؛ فهي حتمًا ستأتي فأحسن الاستعداد لها.
كل هذه المعاني وأكثر ستجدها واضحةً جلية في حياة الكاتب "أمين يوسف غراب"، فقد حلَّ غراب ضيفًا على الدنيا في محلة مالك التابعة لمركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ في 31 مارس 1912 لوالدٍ تاجر نبيه، وكان والده يضرب في دنيا الله طولًا وعرضًا لتنمية تجارته، واصطحب الأسرة معه بعد ذلك إلى دمنهور. عاش غراب في كنف والده حياةً مترفة لا يلوي على شيء، ولم تُلزمه الأسرة بالانتظام في سلك التعليم النظامي، تمامًا كما لاقى الوليد بن عبد الملك بن مروان من الدلال. هذا الدلال كان باعثًا على فساد لسان الوليد، وهو ما أزعج عبد الملك حتى قال يومًا: أضر بنا حُبُّنا للوليد؛ فلم نلزمه البادية، وكان من عادة العرب أن يرسلوا أبناءهم للبادية ليستقيم لسانهم على العربية الفصيحة ولا يفسد بلحن الحضر التي يختلط فيها العرب بالعجم.
ربما أصاب غراب أكثر مما أصاب الوليد، فالوليد كان في كنف الخليفة فضلًا عن أنه كان يقرأ ويكتب، على خلاف غراب الذي لا يقرأ ولا يكتب. الطعام بلا ملح والولد بلا علم أو أدب يكونان أقرب للفساد، لم يدر غراب ماذا يخبئ له القدر في جعبته!! وبمرور الأيام يرزأ والده في تجارته؛ فتنال المصيبة من صحته ما أصابته من ماله، ويتهاوى الوالد على سرير المرض ويلقى مصيره المحتوم. بين غمضةِ عينٍ وانتباهتها يجد غراب نفسه بين رحى الأيام، عليه أن يخرج من شرنقة الدلال إلى ساحة الكفاح والنضال؛ ليسد رمقه ووالدته بعدما كشف لهم الدهر عن نابه وقلبت لهما الدنيا ظهر المجّن.
يخرج غراب ابن السابعة عشرة يهيم على وجهه إلى أن جادت له الأقدار بوظيفة "عطاشجي" في سكك حديد مدينة دمنهور، وهي وظيفة لا تتطلب القراءة والكتابة مما جعله شديد الحفاوة بها راضيًا عن نفسه! وذات صباح يراه أحد أصدقاء والده القدامى؛ فيقرر مساعدته وينقله من سكة حديد دمنهور إلى بلدية دمنهور (المجلس المحلي اليوم) وبوظيفة عامل في البلدية، لم تصادف هذه الوظيفة هوى في نفس غراب؛ لأنها في منطقة يعرفه أغلب المترددين عليها بحكم شهرة والده، وكان يحبذ أن يظل متواريًا عن الأعين، ومع ذلك رضخ للأمر الواقع.
وقعت مشادة كلامية حامية الوطيس بينه وبين مديره؛ فقرر عقاب غراب بنقله إلى مكتبة دمنهور الملحقة بمبنى البلدية، وتظلّم غراب من هذا النقل ورأى فيه نقلًا تعسُّفيًا، وأسلم قياده حين أدرك هذا العمل -كذلك- لا يتطلب القراءة والكتابة؛ فهو عامل يحرص على نظافة المكتبة ويزيح عن وجوه الكتب وصدورها التراب ليس إلا!! وكثيرًا ما كان ينظر إلى الطلاسم الجاثمة على الأرفف لا يفهمها ولا يدرك ما الحكمة منها في الوجود من الأساس!! ربما طلب منه بعض المترددين على المكتبة كتابًا بعينه؛ فتعتريه صدمة وتبرق عيناه ويقفز قلبه بين ضلوعه يكاد يطير من بين جنبيه؛ فتختلف ردود أفعالهم بين موبخٍ ومشفق وصامتٍ يُصعِّد فيه النظر ويصوّب. هنا قرر غراب أن يتعلم، بعد سبعة عشر عامًا من الأمية قرر أن يُمسِك بالقلم وأن يحاور الطلاسم على الأرفف؛ علَّه ينتفع منها ولو بالنذر اليسير.
في غضون عامٍ واحد أتقن غراب القراءة والكتابة، وأتى على بعض الكتب اليسيرة الفهم في المكتبة، ثم جنح به طموحه للثقافة فإذا به يحرص على حضور اللقاءات الثقافية بمقهى المسيري؛ وهي مقهى شهيرة في دمنهور أسسها عبد المعطي المسيري، وجلس فيها العديد من الكتاب والأدباء تتلاقح أفكارهم وتتكامل أهدافهم، ومن بين هؤلاء يحيى حقي، محمد عبد الحليم عبد الله، والمفكر الكبير عبد الوهاب المسيري، وشعر العامية حامد الأفطس وصنوه فتحي سعيد، وغيرهم. ونتيجةً للثقافة التي اكتسبها جرى القلم في يده فسطر مجموعة قصصية بعنوان "الضباب" عام 1939 ثم أصبح متحدثًا يُنصتُ له في مقهى المسيري وقد سمع منه خيري شلبي في بداياته!
اغتنم غراب فرصة ساقها له القدر عام 1942 حين أعلنت جريدة الصباح عن مسابقة لأفضل قصة قصيرة؛ فأرسل مشاركته بعنوان "بائعة اللبن" وحاز على المركز الأول. بلغت أصداء هذا النجاح الكاتب الصحفي الكبير محمد التابعي فنشر لغراب قصة بعنوان "في البيت" في مجلة آخر ساعة، ثم أفرد له مساحةً ليكتب قصة الأسبوع بالمجلة وبشكلٍ متواصل، وهو ما أكسبه شهرةً في الوسط الأدبي فوق ما كان يتوقعه يومًا.
انتقل غراب للقاهرة الساحرة ليبدأ منعطفًا جديدًا من حياته الأدبية، والتحق بوظيفة كاتب بمصلحة السكة الحديد ثم سكرتير عام للمصلحة، ومنها إلى المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية (المجلس الأعلى للثقافة حاليًا) بوظيفة مدير العلاقات العامة، وظل في هذه الوظيفة إلى يوم وفاته. مع انتقال غراب للقاهرة توقدّت ملكته الأدبية وانخرط في الأوساط النقدية وكتب في عدد من الصحف والدوريات، وكتب عددًا من الروايات التي ظهرت على شاشات السينما والتلفزيون والمسرح، ومنها شباب امرأة، الساعة تدق العاشرة، الأبواب المغلقة، امرأة العزيز، وكذلك مجموعة من القصص القصيرة تضم: يوم الثلاثاء، يحدث في الليل فقط، أرض الخطايا، إكليل من العار، امرأة غير مفهومة، وساحر النساء.
قرأ له عميد الأدب العربي طه حسين، وقال عنه: "يمتلك غراب أدوات الكتابة القوية والمؤثرة"، ونتيجة لذلك اجتمع به في مجمع اللغة العربية -مجمع الخالدين- وقرر طباعة أعماله مع تزكية ترجمتها للفرنسية، كما احتفى به الأستاذ لطفي السيد رئيس مجمع اللغة العربية، وحصل غراب على جائزة الدولة التشجيعية في الأدب عام 1963. وفي العام المنصرم أصدرت الهيئة العامة للكتاب كتابًا بعنوان: جمالية النص السردي.. رؤية نقدية في أعمال أمين يوسف غراب، للدكتور محمد نيل، مدرس الأدب والنقد بجامعة الأزهر.
ربما كان الخير في النكبات الذي نتعرض لها، وربما كان الرخاء باعثًا على الخمول فإذا ما قاسينا مرارة الأيام تفتقت أذهاننا عما تحويه من البدائع والكنوز؛ فلا تضجر من المحن التي تعبس في وجهك، واعلم أن النجاح يكمن في تعاملك المرن مع الأحداث من حولك. ولا يفوتك أن تقرأ كثيرًا؛ فالقراءة تصنع المعجزات، وأنت قادرٌ على بلوغ هدفك مهما بدا بعيد المنال.