- عندما هربت مريم من قومها وفاجأها المخاض ، فما كان من توجيه الله لها إلا أن قال لها " فكلي وأشربي وقري عينا فإما تريّنَ من البشر أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أُكلم اليوم إنسياً ".
فقد أمرها أن تأكل وتشرب وألا تخاطب البشر حينما كان يعتريها الخوف والرعب والفزع من فضح أمرها أمام قومها .
وعندما سخر قوم زكريا من نبيهم وتعنتوا في عصيانهم واستغلوا ضعفه ورهطه أمام مواجهتهم ، فما كان من الله إلا أن أمره "وزكريا إذ نادى ربه ربي لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه " .
وكذلك أيضاً " قال آيتاك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً"
وهنا أمره الله عز وجل أن يدرأ عن نفسه ذلك الحطام النفسي الذي تسبب فيه قومه وأن ينئ بنفسه منهم وأن يتهلل فرحاً ببشراه وعطيّة الله عليه - بييحي الذي لم يجعل له من قبل سمياً .
وعندما تهكّم قوم نوح مما يصنعه بعد أن توعدهم بعذاب الله وأنه لا ملاذ أو ملجأ من قضاء الله إلا إليه ، حينها أمره الله ألا ينشغل بمخاطبة الجاهلين والردّ عليهم بل قال : " واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون " .
أما عندما قابل يوسف إخوته بعد إتمام نعمة الله عليه وبعد أن أصبح أميناً على خزائن الأرض ، فما كان منه إلا درأ معاتبة إخوته وعدم توجيه اللوم لهم ، ولكنه اكتفى بقوله عند سؤالهم إياه "قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد مَنّ الله علينا " .
وهنا نجد أن يوسف لم يعتب أخوته فيما اقترفوه من ذنب تجاه ولكنه ارتضي لنفسه فقط تفاخراً ببيان حقيقة فضل ومنّ الله عليه وعلى أخيه ، فقد وجد في تفاخره بمكانته وسجودهم له امتثالاً لأوامر الله ، فإن به من بلاغة الردّ ما يكفي .
فإن أبلغ حديث عند مخاطبة الجاهل هو الصمت والتجاهل ، وعند مخاطبة الحاسد والحاقد هو التباهي والتفاخر .
لذا فنجد دائماً عند مواجهة شدائد وعثرات الحياة لمن يربطون على قلوبهم بالإيمان ، فإن الله يريدهم حينها أن يبعدهم عن خلقه ويعتزلهم عن عباده ( وقلما منهم الواعون وأكثرهم الجاهلون ) ، وذلك ليستخلصهم لنفسه . ففي حضرته تسمو روحهم إلى مرتبة إيمانية أعلى، وتسبح نفسهم إلى عنان السماء بعد نيل مزيد من التطهر من أدناس الحياة لكي تخلُص قلوبهم إلى التعلق به عمن سواه ، وذلك لكي يستطيعوا استكمال مسيرة سعيهم بنفس قوية أبيّه لا ترتضي إلا الحق سيبيلاً وطريقاً .
من هنا نستخلص أن القصص والحوار القرآني نوعان : إما عبادات أو معاملات . فما يتعلق بالعبادات يأتي دائمآ في ثوب صريح من النواهي والأوامر والطاعات التي تحتاج إلي مزيد من العمل والجدّ وبذل الجهد ، بل وجهاد النفس علي مجابهة المعاصي والآثام والسعي المضني إلى رضاء الله .
أما فيما يتعلق بالمعاملات بين الأفراد ، فيتضح من خلال تلك الأمثلة القرآنية أن الله عز وجل يريد أن
يعلمنا انه عند مجابهة الأزمات والمعاناة ليس على الإنسان إلا أن ينشغل بنفسه اولاً ولا يتهافت امام تلك الترهات التي يماري بها المجادلون مُراء الجاهلون .وان يحاول إعادة ترميم حُطام نفسه من جديد على أساس قوامه الثقة بالله التي من دعائمها المنن والمنح والعطايا التي أهداها له ، ثم الثقة بالنفس من خلال مدّها بمزيد من القوة والرصانة والرسوخ .
وتكفل له كل تلك الدعائم ارتكازاً وأسساً ينطلق منها بعد ذلك إلى الدور الأدنى والأخف حدّة عما قبله ألا وهو : الإنتصار للحقيقة وإزاحة الظلم وإعلاء كلمة الحق .
بقلم دكتورة/ فاتن ناظر
-
دكتورة فاتن ناظرإذا كان في الكتابة حياة ففي القراءة حيوات