أول راتب - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

أول راتب

  نشر في 03 فبراير 2016 .

يقولون إن وطني يشبه الجنة لا نصب عملٍ فيه ولا تعب!

المكان: غزة , الوقت: زمنٌ بين الماضي والحاضر والمستقبل تضيع فيه الحاجة، مساحةٌ جغرافيةٌ صغيرةٌ جدًا, والفرص فيها نادرة, لكن على الرغم من ذلك، قد يتاحُ لكَ قدرًا أن تغتَنمها. البحثُ عن عمل في غزة كتفتيشكَ عن إبرة في كومة قش.

على شَفا لعبة القدر اجتزتُ صراط الحظ! فكنتُ من الذين حُق لهم الالتحاقُ بسلك التعليم, نتاج امتحان التوظيف, أنتظر سنةً كاملةً على الدور, ليتاح لي بعدها العملُ مدرسا في المرحلة الابتدائية! أذكرُ أنني ابتهلتُ إلى الله أن يكون تعييني في أول الشهر, طمعًا في راتبٍ يشفِي جروحَ جيبِي الممزقة, على اكتمال دورةِ القمرِ; آمنت أني مربي صاعدٌ, أحدثُ ثورة في تغيير الجيل, بل وبدأتِ الهمةُ تتكور بإصرار وبجدارة, سأساهم في جعل أبنائي الطلاب علامة فارقة في الحياة.

يقتربُ الشهر من نهايتِه, تتشكل غيومُ الأحلام في رأسي, مشكِّلةً صورةً فاتنةً عن أول راتبٍ سأتقاضاه, ولكن تأتِي الرياح بما لا تشتهي السفنُ, إذ تتبعثر أحلامي على نصِ قانون إداري, أنه “لا راتب للمدرسينَ إلا بعد إتمامهم ستة أشهرٍ في سلك التعليم, وقد تمتد الفترة, تبعًا للوضع المالي للحكومات”.

ولأني نلتُ عقد التوظيف في فترةٍ كان القطاع فيها يمرُ بأزمة خانقة في كل قطاعاته الحكومية, فقد كان أمامنا حكومةٌ على شفير الانهيار واقتصادٌ مهترئ, ومستقبلٌ تلاطمه أمواج الظلام.

مكثت اثنا عشرَ شهرًا دون أن أتقاضى فلسًا واحدًا مقابل ما أقدمه من خدمات, ممنيًا نفسي بغدٍ أفضل, بأني أمارس مهنة مبجلة لابد من بذل أقصى العطاء, فأنا مربي الأجيال.

أسير بخطىً متثاقلة, أجر حقيبة أحلامي التي تزداد أعباؤها يومًا بعد يوم, وأخفي خلف ظهري همومًا باتت أوضح من الشمس, شاحبُ الوجه بعينين مثبتتين فوق عتبةِ أقدامي أمدُ يداي, يتنحنح صوتِي وأنا أحاول أن أرفعه ليصل سمعَ والدي, وأسمِعه هامسًا باردًا يشبه الموت: يابا بدي مصروف! قصدي بدي مواصلات.

حالة من الصمتِ المقيت سادت كأنها دهر, كسَر حدتَها صوتُ حشرجةِ النقودِ في جيب والدي, وكثيرٌ من (المسبَّات) على الحكومةِ والفصائلِ تباعًا, وعلى من أوصلنا لهذا الحال. لم أنتبه لما قال كثيرًا, فقد كنت في عالم آخرٍ من المشاعر! يتفصدُ جسدي خجلًا, أتوارى باكيًا على حال ما يسمى موظف.

تسير بي عجلةُ الأيام, تطحننِي كيفما شاءت, أذهبُ للمدرسة مشيًا على الأقدامِ حينًا, دراجة أحد الأصدقاء تنقذني حينًا آخر, وشفقةُ سائق نظر إلي بعطفٍ في يوم ماطرٍ, فأوصلني بسيارته رغم قسوة الظروف!

كنت أحمد الله ألف مرةٍ أني لم أكن متزوجًا أو حتى خاطبًا وإلا لكان الحال أفظع. ذات شمسٍ تميل إلى انتصافِ السماء تسلل لنا عبر خيوطها المشتعلة الخبر, انتعش القلب, وروى ظمأ أوردتِي, وأشرقت ملامح وجهى (بكرة الرواتب) شاركتُ الزملاء هذا الفرح.

ساقتني خطاي للمكتبة مختليًا بنفسي، فما كان مني إلا أن أجهشتُ بالبكاءَ! أجل بكيت من أجل أحلامي في مستقبلٍ واعد, في تحقيق ذاتي. مضى اليوم سريعًا واتجهت أنا وبعض الرفاق سيرًا على الأقدام للبنك, شاردٌ في طريقي أعدُ في مخيلتي مخططًا ليومٍ بهيج, عدد القادمين لاستلام رواتبهم, الانتظار اللذيذ, دوري.

قطع حبل أسراري السيل البشري الذي تلقفتُه أمامي, انتظمنا في الطابور, مرت الساعات كنتُ أسرح فيها أكثر مما أستمع لقصص الموظفين, من بوابة البنك أجتهدُ في أن أطالع موظف البنك كأنه ملك من الجنة على هيئة بشر, يقترب دوري منه بشكل رتيب, وقد يتعثر بحالةٍ أصابها هذيان مفاجئٌ لشيء ما قد سمعته من ذلك الملاك! لا ندري سببه.

أطلقتُ العنان لتنتشِي أحلامي, سأشتري هديةً لأبي, وأساعد في دفعِ تكاليفِ مرض أمي, وسأشتري ملابس جديدةً وأشياء أخرى, حان دوري لتعانق يدايَ الراتب.

أصابتنِي صاعقة أرعدت أوصالي, إن كل ما هو في رصيدي لا يتعدى حدود 700 شيقل، أي ما يعادل 40% من راتبي! وذلك نتاج الأزمة الاقتصادية والحصار المفروض على غزة, وأزمة الموظفين بين فتح وحماس، أخرج من البنك, ألقي بحقيبة أحلامي على قارعة الطريق, أرسم معالمَ أملٍ جديد, متمثلًا في أن أستلم بعدَ عدةِ أعوام راتبي كاملًا.


  • 1

   نشر في 03 فبراير 2016 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا