الجنرال الزاهد يرحل في صمت.. ويخلف الوجوم الصاخب.. - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

الجنرال الزاهد يرحل في صمت.. ويخلف الوجوم الصاخب..

  نشر في 13 ديسمبر 2018 .

يفجعنا الفراق فنصاب بالجزع، لكننا نقف وقفة تأمل لندير حوارا مع الحياة، علنا نتصالح معها ومع أنفسنا، وليس هناك أقوى من رحيل المثال والقدوة عبرة لمن له بصر وبصيرة.

غيب الموت في الثامن عشر من اكتوبر ٢٠١٨ الضابط بالقوات المسلحة السودانية عبدالرحمن محمد حسن سوار الذهب، الذي اشتهر في العالم بموقفه التاريخي حيال وطنه عندما انحاز لرغبة جماهير الشعب في الحرية والديمقراطية، فحقن الدماء واستولى على السلطة من رفاقه في المؤسسة العسكرية في السادس من ابريل١٩٨٥، وأنشأ ما عرف بالمجلس العسكري الانتقالي، ليحكم البلاد لفترة انتقالية استمرت عاما واحدا، قام بعدها بالتنازل عن منصبه وتسليم السلطة للشعب لإجراء انتخابات ديمقراطية حرة أعاد بموجبها  للجماهير حقها؛ حين كان في موقع يجعله الأقدر على تملق البسطاء ومداهنتهم لانتزاعه.

الرجل يصنع الدهشة في حياته وبعد مماته:-

أصابت الدهشة الأوساط السياسية في الداخل والخارج مما قام به الجنرال سوار الذهب مرات عديدة كان آخرها عند وفاته..

المرة الأولى: عندما استولى على الحكم من أيدي قادته في القوات المسلحة بقيادة الرئيس جعفر نميري، وهو الذي عرف بالمهنية العالية إذ كان لا يقوم بتنفيذ الأوامر إلا إذا صدرت عن رئيسه المباشر في العمل، وقد تبين ذلك من موقف شهير له عند انقلاب الضباط على جعفر نميري في يوليو ١٩٧١، حين رفض تسليم الحامية التي يرأسها للانقلابيين، الذين كانوا في مثل رتبته أو أقل.. لكنه عند اندلاع ثورة أبريل الشعبية، تجاوز كل النظم واللوائح المهنية حين تعلق الأمر بحق شعبه في العدل والحرية، واستطاع أن يتغلب على حكومة جعفر نميري القابضة التي حكمت بلاده منذ ١٩٦٩، أفشلت خلالها كل الانقلابات المضادة.

المرة الثانية : عندما أتى بسابقة لم تحدث في تاريخ السودان والدول العربية والافريقية وكل ما يسمى بدول الشرق الأوسط، منذ أن تبلورت كدول ذات سيادة وحكم مستقل، إذ قامت في بدايتها على بعض الحرية والديمقراطية، ثم استشرت فيها أنماط مختلفة من الحكم الدكتاتوري، بسبب أطماع ساستها في تغليب أفكارهم السياسية ورغباتهم السلطوية، بينما كان هو قاب قوسين من صولجان الخكم وبريقه فزهد فيه.

قال أحد الصحفيين في مصر :( لو كانت هناك منطقة حرة في كل الشرق الأوسط لطالبت أن يكون سوار الذهب قائما عليها، ولو خول لي اختيار شخصية للقرنين الاخيرين لاخترت مانديلا وسوار الذهب)

الواقع السياسي في السودان بعد الاستقلال:-

 السودان كغيره من الدول العربية والافريقية، متذ أن نال استقلاله من المستعمر البريطاني، عام١٩٥٦ م ؛ أقام حكومة يمكن وصفها بالانتقالية أو المؤقتة، وذلك وفق انتخابات برلمانية محدودة نوعا، انحصرت في الذين نالواالقدر المقبول من العلم والاستنارة في أمور الحكم وإدارة الدولة ولكن . .

مثل الكثيرين من أجيال التحرير الوطني في العالم العربي والافريقي الذين قال الدكتور هيكل في حقهم - وهو أحدهم - ان أقسى انتقاد وجه لهم وفيه الكثير من الحقيقة : ( أنهم كانوا يدركون ما لا يريدونه وهو الاستعمار، لكنهم لم يدركوا ما يريدونه ولم يقفوا يوما ليتحاوروا كي يدركوه) !.. فلم يلبث الساسة في السودان أن أججوا بينهم الصراعات فانتقل الحكم من برلماني ديمقراطي إلى عسكري ديكتاتوري في غضون عامين، بانقلاب نوفمبر ١٩٥٨، بقيادة الفريق ابراهيم عبود وتأييد ومساندة فئة من رجال الأحزاب المشاركين في الحكم، لمجرد خلافهم مع رفاقهم في تقاسم المناصب وسيادة وجهات النظر، وهكذا أخذت أنماط الحكم تتباين من ديمقراطي إلى ديكتاتوري: - ثورة اكتوبر ١٩٦٤ بعد انقلاب نوفمبر، ثم اتقلاب مايو ١٩٦٩، والذي تخللته عدة ثورات وانقلابات مضادة، كان آخرها ثورة ابريل ١٩٨٥، التي كان عبدالرحمن سوار الذهب وازن مسيرتها وعرابها.

سوار الذهب يحطم بزهده صولجان الذهب:-

أوفى سوار الذهب بوعده لشعبه، وتنازل عن رئاسة بلاده، ليفسح المجال لإجراء انتخابات برلمانية ديمقراطية، بعد عام انتقالي واحد كان يمكنه أن يقوم بتمديده بدعوى الرغبة في الإصلاح - كما فعل ويفعل الكثيرون - كما كان بمقدوره أن ينشيء حزبا كبيرا يكتسح الجميع، أو يستجيب لطلب الأحزاب القائمة بأن يصبح من كبار قادتها، وهو يمتلك الكاريزما والمقدرة القيادية التي تؤهله لذلك.. اضافة إلى انتمائه لأسرة يعود نسبها للشيخ سوار الذهب أحد كبار  رجال الطرق الصوفية في السودان، وقد عرفت الزعامات الدينية التقليدية في السودان بمكانتها في الحياة السياسية والاقتصادية بجانب الدينية والاجتماعية؛ حيث تعارف الساسة على استقطاب الدعم الجماهيري لأحزابهم بتقريب الزعماء الدينيين، فأكبر حزبين في تاريخ السودان هما الحزب الاتحادي الديمقراطي، الذي تدعمه الطريقة الصوفية الختمية، وحزب الأمة القومي الذي أسسه أبناء وأحفاد  الزعيم الوطني الديني محمد أحمد المهدي .  لكن سوار الذهب آثر أن يواصل مسيرة العمل الوطني الإنساني من خلال منظمة طوعية عالمية تعمل على محاربة الفقر والجهل والمرض في افريقيا والعالم الثالث، واستطاع باسمه وذكره أن يجلب لها الدعم من كل انحاء العالم، فتمكن وهو بعيد عن كرسي الحكم أن يساعد البسطاء ، ويفعل ما عجز  عنه القابضون على صولجان السلطة عقودا !!..

ظل يبذل جهده في العمل الطوعي ألى أن توفاه الله، بالمملكة العربية السعودية عن عمر يناهز الثمانين فلم يدع الامر لذويه أو السلطة الحاكمة في بلاده، ليقرروا دفنه في مكان مميز ببلاده كرمز وطني وتاريخي، بل عد نفسه مواطنا عاديا أدى دوره الطبيعي نحو وطنه، وأوصى كعادة السوداني المتصوف البسيط الذي يؤثر أن يوارى جثمانه قرب من يحب، ان يكون قبره في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم...

  وعاد الذهول يكتنف الجميع تارة أخرى  وانتشر اللغط، بين أهل السياسة حتى حاول بعضهم تبخيس دوره الوطني، إذ لم تجد دهاليز السياسة ومآرب الساسة طريقها إليه وهو على قيد الحياة، ولم تظفر منه بمهرجان للتشييع والتأبين، يسقطون عليه ( إحباطاتهم التاريخية)، ليظهر من هم على سدة الحكم مدى احتفائهم برموز العدل والحرية، وليثير من هم خارج معمعة السلطة سخطهم على الوضع القائم؛ الذي لم يفلحوا أن يؤسسوا لإيجاد البديل المعرفي الحقيقي له، كي يديروا شعوبهم وبلدانهم على بصيرة..

وما علموا أن أمثال الفقيد الراحل يدركون أنه إن كان ثمة ما يزكي روح العدل والوطنية في نفوس شعوبهم؛ فهو عملهم الخالص المخلص لأوطانهم وليس مثوى رفاتهم أو هياكل أجسادهم...

وكأن لسان حاله كان ينطق عن صدى صوت أم كلثوم حين غنت في ذكرى رحيل الاقتصادي المصري الشهير طلعت حرب:

قلت لما لم يقم تمثاله

      خير تمثال له أعماله..

ارتاح جسد الجنرال الزاهد في السلطة - كما وصفته الأوساط الإعلامية والسياسية المحلية والعالمية - قرب من يحب، وبقيت روح أعماله تحلق بيننا لتؤكد أن الرجال مواقف وأن الرائد لا يكذب أهله...



   نشر في 13 ديسمبر 2018 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا