لماذا يطلبون الموت ويحققونه بالانتحار؟
هيام فؤاد ضمرة
نشر في 05 أكتوبر 2019 وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .
لماذا يطلبون الموت ويحققونه بالإنتحار؟
هيام فؤاد ضمرة..
الانتحار من الوجهة الشرعية من أكبر الكبائر فهو محرم تحريماً قطعياً، فهو قتل متعمد للنفس البشرية التي خلقها الله وأحسن خلقها وتصويرها، وهو إثم محرم اتفاقاً بأدلة عن المنقول والمعقول.. قال الله تعالى في محكم آياته:
"يا أيها الذين آمنوا لا تأكُلوا أموالكُم بينكم بالباطلِ إلا أنْ تكونَ تجارةً عن تراضٍ منكم ولا تقتلوا أنفسكم إنَّ الله كان بكم رَحيماً"
فنفس الإنسان كنفس أخيه في الإنسانية، فلا يقتل بعضكم بعضاً، ولا تقتلوا أنفسكم، ولا تعرضوا أرواحكم للخطر استهانة بها، فالرحمة أساس التعامل بين البشر وبين النفس والذات لقوله تعالي أيضاً:
"ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة وأحسنوا إنَّ الله يُحبُ المُحسنين"
ونقل عن رسول الله قوله " اجتنبوا السبع الموبقات.. الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات"
فقد خلق الله الإنسان وكرمه وفضله على كافة خلقه.. "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير مما خلقنا تفضيلا".. فلا تكونوا بغاة ضالون صائلون في معصية الله، فالحياة تتقلب على بني البشر بين شدة ورخاء، وبين راحة وشقاء، فالحياة دار اختبار من تجاوز ضوائقها سار في طريق السلامة، ومن صان نفسه فقد تحاشى غضب الله، ومرَّ عن الحادثات بسلامة، دون ارتكاب ما يُغضِب الله، فقد أخذ الله بيده ونجاه.
أرقام هائلة تلك التي تنشر عن تعداد المنتحرين التي تقارب المليون، في هذا الكون الذي تلاعبت به أنامل أباطرة الاقتصاد والمصالح الذاتية، إلى درجة أن تم إفقار إنسان الأرض في غالبية دول العالم، وإفقار الحكومات، وحصارها بالديون، وتعظيم قيمة فوائدها، وفقدها بالتالي قرارها الإداري والسياسي الداخلي والخارجي، بقصد إحكام السيطرة على العالم وجعل إنسانه عبدا يدور في فلك أسياده من ذوي السلطة والمال.
وهناك ما يزيد على ضعف العدد المنشور عن المنتحرين ممن جربوا الانتحار وفشلوا بتحقيقه حسب تعداد منظمة الصحة العالمية who في تقريرها الأخير، وانحصرت حالات الإنتحار في الدول الفقيرة نتيجة عدم القدرة على مواكبة العيش الكريم، وتحقيق الحاجات والمتطلبات الأساسية في الحياة في حدها المعقول، انحصرت تقريباً في الفئة العمرية الشابة وهو الأكثر إيلاماً، فيما دول الغرب تزايد تعداد المنتحرين بين كبار السن الذين يعانون الوحدة والإهمال من قبل الأبناء لضعف الروابط الأسرية وانتفاء مشاعر الإنتماء.
وهناك العديد من الأسباب تدفع صاحبها للإنتحار أو تصنفه كمشروع قابل للإنتحار، ولكن بالطبع لا تزال العديد من الأسباب مجهولة تتوارى خلف مبررات كثيرة لا حصر لها، خاصة مع التغييرات التي طالت تفكير الناس، وأنماط عيشهم، ودخول التكنلوجيا والعالم الافتراضي المليء بالمشاكل والجرائم إلى جانب ايجابيته في كثير من النواحي، وتراجع القيم الدينية، وكثير من العادات الفاضلة التي باتت تعيش فقط في ذاكرة الناس، ودورنا هنا هو وأد فكرة الإنتحار في عقول هؤلاء ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، لأنَّ الحياة هبة ربانية فيها الصالح والطالح وعلى الإنسان ألا يستنفذ طرقه الإيجابية في العيش الكريم.
وغالباً ما يكون سبب الإنتحار يعود لأسباب وجود مشاكل نفسية أو عاطفية أو مالية أو مرضية فسيولوجية أو نفسية، أو لظروف مختلطة تجعل المنتحر واقع تحت ثقل ضغوط نفسية هائلة تعكر مزاجه وتقلِّب حالته على مدى زمن طويل، كفيل لأنْ يُبرمج العقل بأفكار سوداوية في مسألة أذية نفسه، معتقداً أنه يملك الحق في أذية نفسه وقتلها لو تمكن، ما يؤدي به مع هذه الضغوط إلى حالة الاكتئاب الحاد، وولوجه معترك الشتات الذهني، الأمر الذي يُفقده الرغبة بالحياة، فيتحول للا مبالاة تجاه كل شيء، والبرود العاطفي تجاه من حوله ومجتمعه، وفقدان الشهية للأكل، والنسيان والتوهان مع الذات.
المصابون بالهوس الإكتئابي والوسواس القهري وهي حالة نفسية متقدمة جدا تجعل المصاب مضطرب عصبياً، ومتقلب مزاجياً، بل ومتحول المزاج خلال لحظات وبلا أي سبب، وأحيانا تجده شذّ عن الموضوع وتاه في مسالك الحديث بحيث أن كلامه يبدو غير مترابط، أوينحو لغير ما يجب أن يكون عليه.
ومثلهم المصابون بالفصام أو المتعاطون المخدرات، معرضون لسيطرة الأوهام غير الحقيقية عليهم، وتفسير الأمور بشكل مغالط تماماً عن الحقيقة، حالة هذيان نفسي يؤثر على التفكير، والتوازن العقلي، وانقلاب الرؤية وتعظّم الأوهام والخيالات لدرجة أن تسيطر عليه وتوهمه أنها الحقيقة.
فيما اضطراب الشخصية الحدّية تُعد الأكثر اقتراباً من حالات الانتحار، وهي شخصية غير مستقرة عاطفياً، وغير متوازنة عقلياً، مشوهة التفكير، مندفعة التصرف، بعيدة عن التريث وتتحرك دون تفكير، فهو كالقاطرة التي تسير بطريقة رعناء بلا سائق، أو بسائق في حالة السكر الشديد.
ولعل الرجل أكثر قدرة على اخفاء أعراض الاكتئاب من المرأة المستكينة بسبب نشأته الصارمة على أنه الرجل الأكثر تحملاً واحتمالاً، لهذا نجد أن جميع من حول المنتحر يؤكدون أنه لم يكن يظهر عليه أنه مكتئب أو أنه ينوي إنهاء حياته، لكنه يصبح أكثر لطفا وكياسة وأقل كلاماً، ويفقد الرغبة بالقيام بأي نشاط حيوي، حيث تدور في عقله فكرة عدمية الحياة، وعدمية جدوى العيش فيها، وكأنه يرغب بترك رسالة ايجابية خلفه رغم ما يمور داخله من أفكار بالرغبة في التخلص من الحياة، وتولد هذا الإحساس داخله سببه تعرضه لنتاج تفاعلات كيميائية العقل الحساسة في حال الضغط النفسي مع ظروف المناكدة في حياته، في وجود الظروف الشخصية الداخلية المساعدة.
قبل أيام مرَّ خبر منشور في إحدى الصحف، عن انتحار شاب في العشرينات من عمره يعمل عامل بسيط في محل لتصليح السيارات ويتحمل إساءات صاحب العمل لخوفه من فقدان عمله واغلاق باب رزقه، دخله البسيط لا يفي متطلبات عيشه وأسرته، ولا حتى في تأمين أساسيات العلاج لوالدته الأرملة المريضة وشقيقاته الأربعة، وفقر أسرته يجعلهم يتلقون المساعدة من أهل الخير بين فينة وأخرى، ووجد أنه سيظل طوال عمره يعمل كالآلة المبرمجة ليل نهار ويتلقى الذل مع القليل من المال، ولن يستطيع تحقيق أقل مستوى للاكتفاء..
اليأس من الحياة حين تجف منابع المادة وهي أساس العيش الكريم، يصبح الأمل في تحقيق الأمن المعيشي مستحيلاً، يصاحبه ضغط نفسي متراكم نتيجة الشعور بالفشل، فكيف لا يكون الفقر سببا في الانهيار النفسي المؤدي للإضرار بالنفس، وقد قال عمر بن الخطاب "لو أن الفقر رجلاً لقتلته"، فالفقر محبط وحالة كفاف الكفاف مدمرة، فكم من شخص انتحر لتراكم الديون والعجز عن الوفاء بمتطلبات العيش، إنها لمأساة تحتاج لدراسة وتعديل بالقوانين ومساعدة الموسرين للمعسرين.
فالمكتئب إنسان مثقل بالضغوط النفسية، ومحاصر بإحساس متعاظم بالنبذ والفشل، يُحمِّل نفسه الذنب في المسؤولية عن ذلك، كونه غير قادر على الحياة، يائس تماماً، ففي الوقت الذي يتجه أصبع الإتهام إلى المنتحر لتعدية على الروح، فكل الأصابع تتجه إلى مجتمع فشل في انقاذه بالوقت المناسب.. فهل من وعي؟
-
hiyam damraعضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية