"لا يمكنك تحقيق كل أحلامك,للأسف يا بني ليس كل ما يتمناه المرء يدركه و تجري الرياح بما لا تشتهي السفن"

هذه الكلمات كانت كفيلة بإطفاء نار حماسه المشتعلة و كأنها مياه شلال سقطت على لهيب شمعة كانت أصلا لا تكاد تستقر بسبب حركة الهواء التي تسعى هي الأخرى للنيل منها,هكذا قضى غيث تلك الليلة يتقلب فلا النوم يرضى عنه فيزوره و لا الراحة ترحم قلبه المكلوم بالحسرة على ذلك الفشل المحتوم الذي وصل إليه.لم يعد في وسعه الخروج و لا ملاقاة عينه بعين أبيه الساخط على نتيجته و لا هو شجاع بكفاية لمواجهة ذلك العالم الخارجي الذي يهمس خلف ظهره في كل ركن."أليس هذا غيث ابن المهندس بهاء؟سبحان الله,لم يرث ذكاء أبيه سمعت انه لم ينجح في امتحانات الثانوية"

و غيرها الكثير من العبارات التي تتوالا و التي أصبح غيث يتوارى كي لا يسمعها بيد أنه يراها في عيونهم و ابتساماتهم و ضحكاتهم الصفراء.حتى رفقاؤه الذين كانوا أقرب الناس إليه قد تنكروا له,فكيف لهم أن يقضوا أوقاتهم مع من يرونه فاشلا و معاقا؟-و تالله لا أرى في هذه النظرة سوى إعاقة هذا المجتمع الغريب-كانت هذه التحولات تجرحه في البداية و كأنه زلزال ضرب حياته فهو لا يذكر كيف تسارعت الأحداث ليجد نفسه في هذه الحالة,و ليس في حالة تمكنه من الحكم على إذا ما كان يستحق أن يكون في مثل هذا التوهان و الحيرة.فقرر أن يحبس نفسه لفترة في تلك الغرفة التي شهدت أحداث سنواته الأخيرة ليراجع ألبوم ما حصل,لكنه لوهلة وجد أن ذاكرته المصدومة قد امتصت تلك التفاصيل امتصاصا يعجز عقله عن تفسيره فقد الامر يشبه ذلك التسونامي الذي يجتاح الساحل فلا يعود له أثر و لا للقرى و المدن التي مر فوقها أثر,سيطرت الحيرة و تلاها الاكتئاب و الرغبة في النوم إلى ما لا نهاية.إنها رحلة الهروب من الواقع التي غالبا ما نقع في فخها رغما عنا و دون اختيارات,نجد فيها عذرا لاخفاقنا لنزيده عمقا و نغرق فيه.

لكن ذلك اليوم الجديد كان مختلفا ذلك اليوم كان فيه رسالة مطوية كتبها غيث لنفسه في زمن آخر,فبينما كان الشاب المغيب عن عقله الذي اسكره اليأس و الاستسلام عازما على حرق تلك الأوراق القديمة التي لخصت رحلته منذ الطفولة وجد تلك الرسالة التي سافرت عبر الزمن ليقرأها

بين كتبه,فتحها لتبصر عيناه تلك الحروف المهتزة المخطوطة بخط طفولي ركيك لطفل في الصف الرابع تقول له:

أنا غيث,بطل صغير سيكبر ليصبح ما يريد,أخبرني أبي اليوم أنني كنت رائعا حين ساعدت أمي في المطبخ و جعلت أخي الصغير يبتسم.أعتقد أن بإمكاني أن أكون شخصا ناجحا في المستقبل.

انفجر بعد هذه الكلمات باكيا على ثقته التي تبددت بنفسه و على ذلك الطفل الذي قتله بداخله و خنق أحلامه و طيبته و طموحه.ثم التفت لوجهه في المرآة و خاطب روحه المعدمة قائلا:

أما آن لك أن تستفيقي

إنها كلماتهم فقط تلك التي قتلت غيث قبلا و هي كلماته هي من أحيته.عاد غيث ليدرس في أي مكان هو و لملم أشلاء طموحه ليبني صورة واضحة لوجهته.أشعلت رسالته شمعة حلمه الذي نسيه فقرر أن لا يكون ضعيفا و يتحمل مسؤولية أخطائه فالحياة لن تنتظره و ستمضي سواء أوقف أو سقط,وأن الحل ليس في الهروب من الواقع الذي لن يزداد بإنكاره إلا سوءا.

جلس على مكتبه ليكتب رسالة أخرى لنفسه في المستقبل.

بعد 10 سنوات مرت فتح غيث مغلفا أحمر يملؤه الغبار لكن كلماته كانت واضحة المعالم بخط جميل و حبر عتيق تقول:

" إذا كنت تقرأ هذه الكلمات فانا أبارك لك يا غيث تلك الشجاعة,لقد ربحت التحدي و أنا فخور بك"

‫#‏نوال_جامع‬