وداعــــــــاً ... تـــشـــــــــــــــــــــــــانـــــدلر بـــــــــــــيـنــج
(عن ماثيو بيري و الرقصة الأخيرة على حافة العالم)
نشر في 10 يناير 2024 وآخر تعديل بتاريخ 10 يناير 2024 .
من الصعب ان تجد شخصاً من مواليد الثمانينات او بداية التسعينات يستطيع ان يشرح لك بوضوح أسباب نجاح مسلسل "فريندز" الأمريكي الشهير الممتد الان لما يقارب الثلاثين عاماً عبر ثلاثة أجيال، رغم ان حلقات المسلسل نفسها امتدت لعشر سنوات فقط بين عامي ١٩٩٤م و ٢٠٠٤م. ربما لأن "الأصدقاء" مثلوا الكثير من الأشياء للكثير من الناس من مختلف الأعمار و المشارب و الجنسيات، فكان (و ما زال) الكثير منهم يشاهد مغامرات الأصدقاء العاطفية و نقاشاتهم السخيفة المضحكة لأسبابه الخاصة، و ما زال الناس يضحكون على نكاتهم رغم انهم شاهدوها لآلاف المرات قبل ذلك. تعرف الناس على جوي، روس، تشاندلر، مونيكا، رايتشل و فيبي منذ أن فتحوا أعينهم على مسلسلات " السيتكوم " الأمريكية بحلقاتها القصيرة و محتواها الخفيف على الروح. ستة أصدقاء في أواخر العشرينيات، بيض البشرة، انقسموا بين شباب و فتيات بالتساوي، من طبقات اجتماعية مختلفة لم تمنع صداقتهم و حبهم لبعضهم البعض. خلطة عبقرية يكمن سرها في بساطتها، مكنت الكتاب و المخرجين من اسقاط ما لا يعد و لا يحصى من التحديات و المشاكل و الحبكات على كل واحد من الأصدقاء الستة و معالجتها بكل سخرية و بساطة (و عمق أحياناً) دون اثارة أي حساسيات، مع تجنب إهانة أي عرق او لون او دين او توجه، فكانت النتيجة ان الجميع أحبهم، و تمكنوا من دخول البيوت و القلوب بكل سهولة. وجد الوحيدون في هذا العالم، خاصة الذكور منهم ممن لم يصيبوا حظا وافرا مع النساء في "جوي تريبياني" (مات ليبلان) صديقا مخلصاً لن يتردد في الانضمام اليهم للاستمتاع بشطائر كرات اللحم الإيطالية المفضلة لديه، رغم انه على الأرجح لا يملك ثمن ما أكله، و بالتأكيد لن يفكر مرتين قبل تحديك في لعبة "فوزبول" و ربما أكمل السهرة معك في مشاهدة حلقة من مسلسل "باي واتش" او مختارات فنية أخرى – اذا حالفكما الحظ مع شركة الاشتراك التلفزيوني - دون أن ننسى شعبيته الطاغية بين المشاهدات من الجنس الناعم. أما أولئك الذين يعيشون حياتهم الخاصة بروح حرة لا تحب القيود، و يتمنون دوماً لو انهم ولدوا في الستينات ليعيشوا هيبيين بوهيميين، بشعور و لحى طويلة غير مشذبة و ملابس فضفاضة مزركشة و يستمتعوا بموسيقى الروك اند رول تحت تأثير سجائرهم الملغمة فضحكوا و صفقوا "لفيبي بوفيه"(ليزا كودرو) و التي بالتأكيد كانت أكثر شخصية سحرية غير متوقعة بين زملائها. كل ما عليك عمله هو تجنب أكل اللحم و إيذاء الحيوانات و إهانة الأرواح الغاضبة في بيتك و ستكون علاقتكما على ما يرام. بالإضافة الى تجنب أي علاقة من أي نوع مع اختها التوأم "أورسولا"، و إلا فستواجه ما واجهه جوي المسكين. كل من واجه وسواساً قهريا او مشاكل في وزنه وقع في حب "مونيكا جيلر" فوراً، و لنكن واقعيين هنا، فكلنا نعرف شخصا قهرياً متسلطاً بقلب محب عطوف و مضياف و مهارات طبخ لا تضاهى يملك بعضاً من مونيكا في داخله. و لن تجد فتاة لا تتمنى ان ترجع بالزمن لتعيش مراهقتها، دون القلق بشأن وزنها و مظهرها، و هو ما نجحت مونيكا تماماً في تجسيده. لكن ذلك لا يعني ان كل الفتيات يكرهن مرحلة المراهقة، بل ستجد دوما تلك المرأة التي تحن لأيام شبابها الأول، حين كانت تلك الشابة الفاتنة الثرية ذات العينين الساحرتين و القوام الممشوق و التي تهافت أقوى الشبان لكسب قلبها، قبل ان تكتشف ان العالم الحقيقي لا يشبه أيام المراهقة على الإطلاق، و ان الحب الحقيقي، ان كنت من المؤمنين به، صعبٌ و متعبٌ بل و يكاد ان يكون ساماً قاتلاً أحياناً، و انه لإنجاح الأمور في الحياة و العمل، فيتوجب على المرأة ان تكون أكثر و أكبر من مجرد قشرة خارجية براقة، لهؤلاء الأميرات الحالمات صنع المنتجون "رايتشل جرين" (جينيفر آنيستن) الرائعة الجمال و التي سرقت قلوب الجميع بلا استثناء، حتى براد بيت نفسه لم يستطع مقاومتها، قبل أن يغير رأيه طبعاً بعد أن تعرف على أنجلينا جولي (و هل يستطيع أحد لومه؟). أما "روس جيلر" ( دايفيد شويمر) فقد كان هدية من المنتجين لكل الرجال الكادحين العاملين الجادين الفخورين برجولتهم و شواربهم و تعليمهم و الذين يمضون حياتهم حقا دون أن يلاحظهم او يشكرهم أحد. فان نجحوا و قاموا بواجباتهم، فلأنهم رجال. و عند بدور أي نقص منهم، ينقض الجميع عليهم بلا رحمة. أي شخص واجه زواجا انهار بلا أسباب حقيقية أحس بشيء من روس. كل الآباء و الأمهات الذين اضطروا لتربية أطفالهم بمفردهم، خاصة اذا كانوا صبياناً، أحسوا بمعاناته. كل من عانى لسنوات من حب عذري مستحيل لا طائل من وراءه أحس أيضا بروس.
وحده "تشاندلر" و الذي لعب دوره الممثل الراحل (ماثيو بيري) مثل تحديا حقيقيا للجميع، بمن فيهم أولئك الذين صنعوه. كان من الممكن ان يلعب الكثير من النجوم الموهوبين كل الشخصيات الأخرى بنجاح، الا تشاندلر، فقد كان يستحيل لممثل غير بيري ان يبعثه للحياة بتلك الطريقة التاريخية. و السبب بسيط للغاية باعتراف الممثل نفسه، فقد كان تشاندلر تجسيداً حقيقياً لماثيو بيري، كان الرجلان وجهين لعملة واحدة. روحٌ واحدة انقسمت الى شطرين، أحدهما على المسرح و الآخر خارجه. تشاندلر يعتبر بالتأكيد أكثر الشخصيات الستة تعقيدا و عمقاً. كان هناك دوماً دافع خفي مظلم وراء نكاته، كان هناك دوماً خوف حقيقي دفين وراء تعليقاته. تشاندلر و الذي كان في منتصف العشرينات عندما بدأ الأصدقاء مغامراتهم، بدأ من عمره المبكر ذاك خوفاً لا إراديا من ان يموت بمفرده وحيداً. كان يتهرب من الالتزام بأي علاقة مع الجنس الآخر، لإحساسه العميق بالدونية و النقص. لم يساعد الموضوع ان اباه كان متحولاً جنسياً (قبل ان يصبح ذلك موضة رائجة بزمن طويل) فانعكس ذلك في صورة اضطرابات عميقة، جعلتنا دوماً نرى تشاندلر و هو يحاول التأكيد على انه رجلٌ فحلٌ و جذاب للنساء، يستحيل ان يكون شاذاً مثل أبيه. أما والدته فتلك قصة أخرى تماما، فهي كاتبة ناجحة و معروفة و جميلة للغاية بالنسبة لامرأة في عمرها، متخصصة في أدب الحب و الإيروتيكا، لم تجد رجلاً في الولايات المتحدة الأمريكية كلها لتتحرش به جنسيا الا "روس"، صديق تشاندلر، ابنها الوحيد. مما يجعلنا نتساءل حقا عما اذا كان تشاندلر قد امتلك أي فرصة ليكون طبيعيا مثل أقرانه. و رغم نجاحه الوظيفي و ذكاءه المالي، عانى تشاندلر لكي يشعر بالاستقرار و الاحترام، كان يحتاج الى ان يرى أصدقاءه و هم يعرفون طبيعة عمله و يؤكدون له على أهميته. كان يحتاج الى ضحكاتهم على نكاته. كان يحتاج – و بشدة – لأن يعطي "جوي" ما يكفيه من المال دوماً. كلنا تفهمنا رغبة تشاندلر في ان يساعد صديقه المقرب ماديا، لكن شيئا ما جعلنا نحس ان تشاندلر كان يفعل ذلك لإرضاء نفسه قبل أي شيء آخر، لإسكات تلك الفوبيا المظلمة في أعماقه من ان ينتهي به المطاف وحيدا، فلا يمكن ان يحدث ذلك له هو شخصياً و لا لجوي طبعاً. أنماط و توجهات مرضية واضحة كلها انطبقت حرفيا للأسف على الممثل في حياته الواقعية. لم يعش ماثيو بيري مشرداً على قارعة الطريق مثل الكثير من ممثلي هوليوود. لقد نشأ في بيئة مليئة بالحب و الاهتمام، و تلقى تنشئة و تعليماً لا بأس بهما. كان والده "جون بينيت بيري" مغنيا و ممثلا و عارض أزياء معروفاً، ، ربما كان هو من أعطى ابنه توجهاته الفنية و طلته البهية، اما والدته "سوزان ماري موريسون" فقد كانت سكرتيرةً صحفية لرئيس الوزراء الكندي " بيير ترودو "، والد رئيس الوزراء الحالي " جاستن ترودو ". لقد توفرت لماثيو الصغير كل وسائل العيش الكريم المرفه، حتى انه زامل جاستن ترودو في المدرسة و تنمر عليه! و تمكن لاحقاً من دراسة التمثيل و الدراما، و هو ما لا يتوفر لأغلبية نجوم هوليوود الذين يصعدون عادةً من القاع. لكن ماثيو و منذ أيامه الأولى كان يحمل رغبةً غريبة لتدمير ذاته. كان فقير التحصيل العلمي، كثير المشاكسات و المشاكل، رغم بيئته الراقية و المتعلمة. يحس المرء ان بيري قضى حياته كلها يبحث عن شيء ما، مكون ناقص في وجدانه لكي يكون سعيداً و راضياً. ذكر في كتابه انه قد أقسم لله انه اذا أصبح ثرياً و مشهوراً، فسيرضى بأي شيء يكتبه الله عليه بعد ذلك، ليتلقى بعد ذلك بأسابيع قليلة الاتصال الهاتفي الأهم في حياته و يتم إبلاغه بأنه قد حصل على دور تشاندلر، و ما حدث بعد ذلك جزء من التاريخ. قال ماثيو بيري مرةً انه لا يتذكر تصوير ثلاثة مواسم من "الأصدقاء"، و المتابع المخلص للمسلسل يمكنه رؤية التقلبات الكبيرة في وزنه و مظهره و هو يصارع الكحول و المسكنات. كانت رؤيته في حلقة لم شمل الأصدقاء عام ٢٠٢١م مؤلمة للجميع، كان سميناً و ضعيفا، قليل التركيز خائر القوى، كثير التلعثم، و بدا أكبر من رفقائه بما لا يقل عن عشرين عاماً، رغم انه في الحقيقة أصغرهم سناً. أنفق بيري ملايين الدولارات ليحارب شياطينه، جرب كل شيء لكي يقلع عن الكحول و المسكنات دون فائدة.
و كنتيجة حتمية لكل ما سبق، لم يتفاجأ أحد عندما أُعلن نبأ وفاته غرقاً في حوض استحمامه الخاص يوم الثامن و العشرين من أكتوبر من العام الجاري، بعد أن أخذ جرعة من مخدر " كيتامين " الذي وُصف له لمعالجة الاكتئاب، لتتحقق فعلا و بدقة مخيفة نبوءة تشاندلر بينج عندما كان ينظف شقة السيد هيكلز. مات ماثيو بيري وحيدا و حزيناً. مات و أجبرنا على تذكر الحكمة الشهيرة القائلة بأن على الرجل الحذر دوماً مما يتمناه بشدة، فقد يحصل على كل ما يريده، لكن الثمن عادةً ما يكون باهضاً جداً. لقد أضحكنا تشاندلر بينج و ارتبط ارتباطا وجوديا بالكثير من مراحل حياتنا. أحب مونيكا و عاملها بود و احترام. كان ابناً باراً لوالدين مستحيلين بذلا كل ما في وسعهما لتعقيد حياة ابنهما. كان صديقاً مخلصاً لجوي و روس، تحمل غبائهما و وقف معهما في أحلك الظروف. لهذا كله يستحق منا تحية أخيرة. لا يهم ان كانت موجهة لتشاندلر او ماثيو، فهما في الحقيقة شخص واحد. لا توجد نهايات سعيدة في هذا العالم القاسي. هي قصة تحذيرية أخرى نرويها لأنفسنا، عن رجل عاش في أرض بعيدة و جميلة، حصل على كل ما يتمناه في هذه الحياة، نجاح منقطع النظير، شهرة اسطورية ستستمر لعقود قادمة، ثروة تقدر بمائة و عشرين مليون دولار، مع كل ما يأتي مع هذا القدر من الأموال من الحسناوات و السيارات و الممتلكات، لكنه رغم كل ذلك مات وحيدا منفطر القلب في قصره الفاخر في حي " باسيفيك باليسايدس " في لوس أنجلوس.
وداعاً تشاندلر بينج ... و شكراً على كل الذكريات.
-
د. محمد حسينطبيب و كاتب باهتمامات متعددة