البريد ، ذلك العالم الحبيب ١
استيقظ صباح اليوم الموالي و علامات التعب بادية عليه ، بعد أن أمضى نصف ليلة خارج أسوار بيته ، لكنه و حين استرجاعه لشريط اللحظات التي عاشها ابتسم ابتسامة ارتياح و حمد الله مرة أخرى على هذه النعمة ! كانت الشمس ضحوكة هذا الصباح ، و لكنها لم تكن بتلك القوة الكافية لكسر هذا البرد الصقيعي الذي يترائى له عبر النافذة ، كان الثلج و لونه الأبيض مهيمنان لا يزالان على الأزقة و الشوارع ، و أسطح المنازل المثلثة ، ترجل من سريره ، و قصد مطبخه ، و حضر فطوره ، و جلس قدام النافذة يتناوله بتلذذ ، و يطلق بصره ، في المنظر الجميل الذي يأسر كل من له إبداع في حاسة نظره ، ثم التحف بملابسه ، و خرج … كان وقع حذائه على الدرج الخشبي ، يصدر أصواتا شبه مزعجة ، و كان شبه متأكد أنه و ما إن يصل الطابق السفلي حتى يجد السيدة إيديلتراوت كعادتها تنتظره ، في محاولة للظفر بمحادثة طويلة ، و فعلا ، كان تخمينه صحيحا ، فما أن عرج نحو باب العمارة حتى خرجت منادية :
ـ على رسلك سيد جيكوب ! ألم تتعلم في بلدك إلقاء تحية الصباح ! ؟
التفت نحوها بعد أن أخفى ضحكة صغيرة و قال ، متظاهرا بعدم توقعه له في هذه الساعة :
ـ أوه سيدة إيديلتراوت ، صباح الخير ، كيف حالك ، لم أتوقعك يقظى خلال هذه الساعة من الصباح !
ـ أيها الماكر ، أنت تعرف جيدا أنني استيقظ مبكرا ! هاه كيف حال ضرسك اليوم ؟
ـ بخير ! أنا اليوم بخير ، و قص عليها باختصار ما حدث معه الليلة السابقة ، و أصغت إليه باهتمام ، حتى إذا انتهى بادرته قائلة :
ـ جميل كنت قلقة من أجلك سيد جيكوب ! أنت فعلا إنسان طيب ، رغم أنك أجنبي !
ـ و أنت سيدة طيبة ، بالرغم من هذه النبرة النازية !
ـ هل أنتظرك على الغذاء ؟ سوف أطبخ لك طبقا ألمانيا لذيذا !
ـ أشكرك جدا على الدعوة سيدة إيديلتراوت ، و لكن اسمحي لي أن أعتذر لك اليوم ، و أعدك في يوم أن البيها ، علي أولا أن أذهب إلى وزارة العمل من أجل البحث عن عمل يساعدني في إتمام دراستي ها هنا !
ـ هاه ، و كيف تعيش إلى الآن بدون عمل ؟
ـ هناك والدي حفظه الله ، يرسل إلي ما تيسر كل شهر ، و لكني أحب أن أعتمد على نفسي ، خاصة و أننا في بلد يحترم الطلاب و العمال ، أليس كذلك ؟
ـ صدقت سيد جيكوب ، هيا اذهب ، كي لا تتأخر !
ـ رافقتك السلامة سيدة إيديلتراوت !
خرج من باب العمارة ، قابله القر الجليدي على وجهه ، فصدرت عنه حركة لا إرادية ، تنم عن تأثر جسده بهذا التحول السريع في الحرارة ، الذي يفصل داخل العمارة المكيف ، بهواء ألمانيا الخارجي ، ثم قصد الميترو الذي قاده إلى أقرب محطة من وزارة العمل ...
في غمار البحث عن وظيفة ، بعد أن استقر في الجامعة ، و رغبة منه في تخفيف الحمل على والده ، بدأ يبحث في الصحف و الجدران عن وظيفة تتلاءم و دراسته ، و الحق أن المانيا ، ملعب كبير ، لجميع من يريد البحث عن وظائف ، ذهب بعد ذلك إلى وزارة العمل ، و التي تخصص حيزا هاما من مبناها من أجل العاطلين عن العمل ، من أجل ربطهم برؤساء الشركات الذين يبحثون عن موظفين ، فوجد هناك خليطا من أجناس ، ألمانية ، و أجنبية ، هدفها الوحيد البحث عن وظيفة ، رغم أن المتواجدين من جنس الماني ، كان لهم الحق في مطالبة الحكومة بتعويض عن البطالة ، و الذي تحدد في القانون الألماني في 380 أوروها ، عدلت قبل أسابيع لتصبح وزارة الشغل هي من تدفع واجب الكراء ، ثم تمنحهم 100 أوروها من أجل العيش ، تبقى غير كافية في ظل الغلاء المتزامن و نموه شيئا فشيئا في هذه البلاد !
ملأ الإستمارة ،و انتظر دوره حتى نودي على اسمه من طرف أحد موظفات وزارة العمل ، دخل مستأذنا ، فأجابته بابتسامة ترحيب ، أن لُج ، و طلبت منه الجلوس بلطف ، و سألته :
ـ سيد جيكوب ! ها ، ما الذي يمكنني فعله من أجلك ؟
ـ حسنا سيدتي ، أنا طالب في الجامعة هنا ، و أريد البحث عن وظيفة ، نصف كاملة ، من أجل الإستعانة براتبها على عيشي هنا و دراستي !
ـ همم ، جميل ، هل لي أن أرى جواز سفرك ؟
ـ تفضلي سيدتي
ألقت نظرات متفحصة بين صفحاته ثم قالت :
ـ نعم كل شيء عندك قانوني ، و يمكنك البحث عن عمل ، ثم ضحكت لتلطيف الجو ممازحة : أنت في المكان المناسب ! و لكن لا تقلق سيد جيكوب ، فالأمر لن يتطلب الكثير من الوقت قبل أن نتصل بك ، فطلاب الجامعات هم الأكثر حظا هنا في المانيا فيما يخص الأعمال النصف كاملة !
ـ شيء مفرح ، حسن ، هذه هي الإستمارة التي طلبتم مني ملأها ، هاهي ، و سأنتظر مكالمتكم قريبا !
ـ شرفني لقاؤك سيد جيكوب
ودعها ثم خرج ، إلى ردهة وزارة العمل الألمانية في المدينة ، و كان البناء يحتوي في طابقه السفلي على بهو كبير نسبيا ، به حواسيب مثبثه ، ترسل فيها الوظائف الخالية و عناوين الشركات التي تبحث عن عمال ، فكان الباحثون عن عمل ، و الذين أودعوا استماراتهم لدى وزارة العمل ، يأتون إليها من أجل التعرف على جديد الطلبات و الوظائف ، و كان كل شيء هناك كخلية النحل ، كل حسب وجهته ، ثم هناك مكاتب تسلم فيها المعونات الشهرية للألمان الأصليين في البلد و المتجنسين ، معونة تقدمها الدولة للعاطلين في انتظار التحاقهم بوظائف جديدة ! و كان النظام و القوانين التي سنها المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر ، قد خففت كثيرا من وطأة الأزمة المالية العالمية التي أتت بعد ذلك في عهد مواطنته الحالية أنجيلا ميركل ، حيث سن قوانين ، تمكن الشركات من توظيف أناس عاطلين بأجل لا يتعدى ال ٥٠٠ يورو ، بشرط أن يعفوا بشكل كامل من الضرائب المفروضة على الشركات ، و كان لهذه القوانين تفاعل إيجابي للشركات الموظفة ، إذا علمنا أن القانون الضريبي الألماني يلزم الرؤساء بالدفع أكثر للأناس العاديين ، أما الطلبة ، و رواد الجامعات فيستفيدون من الكثير من الإمتيازات في جميع المجالات ، في دخول المسرح ، و السينما ، و الملعب ، و الكثير الكثير ، و لا فرق في هذا بين طالب الماني و آخر أجنبي ، لم يفقد الأمل ، فقد واعد نفسه ، و انتظر هذه الفترة التي تلي البحث عن وظيفة ، و النتيجة مضمونة في ألمانيا ، فإما أن تجد عملا قارا ، أو أن تتنقل بين وظائف مختلفة ، المهم أن جميع من يأتون ، يجدون وظيفة بشكل أو بآخر ، حتى لو انتهى بهم المطاف من جديد في ردهة وزارة الشغل
استيقظ في صباح ، و اشترى الصحف التي تبث بين سطورها ، إعلانات الشغل ، فوجد إعلانا عن وظيفة شاغرة ، لشغل وظيفة ساعي البريد بجنوب المدينة ، و لم يتردد في الإتصال بالرقم ، و كانت المجيبة ذات صوت يوحي بكبر سنها ، فأعطته موعدا للمقابلة ، و نصحته باصطحاب ةرقة تعريفية عنه و عن مساره الدراسي ، و سأل االله بعد نهاية المكالمة ، أن تكون هذه الوظيفة من نصيبه ، رغم أنه لا يعرف عنها شيئا ، خاصة إذا كان البريد يوزع في هذه البلاد بالدراجة النارية ، فهو لا يطيقها أبدا ، المهم أنه أخذ موعدا للمقابلة في اليوم الموالي
ذهب إلى السوبر ماركت الذي اكتشفه مؤخرا ، و الذي يعتبر أقل أسعارا من السوبر ماركت الذي كان يشتري منه حاجياته ، فذهب و دخله ، و كانت الأسعار فعلا متباينة ، فابتاع زجاجة بلاستيكية كبيرة من الشاي المثلج بمذاق الليمون ، و شوكولاته ، و بعض الحليب ، و ذهب إلى منزله من اجل إعداد الورقة التعريفية الخاصة به ، و كان ذلك بعد أن عاد من الجامعة ، و قد كان مقدرا أن يكون ذلك اليوم يوم ثلاثاء ، و هو يوم تمارينه الرياضية العنيفة ، إلا أنه استثنى هئا اليوم من قوائم التدريب ، دخل و سطر ما يجب عليه سطره ، و التهم ما اشتراه ، ثم نام ...
في صباح اليوم الموالي ، أخد على عاتقه أن لا يتأخر عن الموعد ، و أن يكون دقيقا ، و الحق أنه دائما يحترم مواعيده ، و يجده عيبا كبيرا يسقط فيه من يأتي بعد موعده بنصف ساعة ، فذلك اخلال بالإحترام للطرف الآخر ، و تقليل من أهمية الشخص من ناحية أخرى ، وصل البناية التي وصفتها له السيدة بعد عناء ن فقد كان عليه أن يركب في الميترو مرتين ، و البحث المضني حتى أنه كان سيتأخر دقيقة عن موعده إلا أن الله لطف ووجد العنوان أخيرا
دخل فرمقته السكريتيرة بنظرة سائلة :
ــ كيف يمكنني مساعدتك يا سيدي ؟
ــ لدي موعد مع السيدة ألكسندرا ، أنا السيد مهدي يعقوب
ــ نعم صحيح ، تفضل ، سأخبرها بقدومك رجاء
ــ حسنا شكرا لك
أتت بعد ثوان ، تخبره بأن السيدة جاهزة للمقابلة ، جمع أوراقه بين يديه ، و دخل ، و حياها بتحية باسمة
ــ أهلا سيدتي ، أنا يعقوب ، لدي موعد معك !
ــ أهلا اهلا ، نعم أتذكر مكالمتنا
ــ حسنا
ــ حسنا ارني ما لديك أيها الشاب
ــ تفضلي سيدتي ، هذه ورقة تعريفية عني و عن مجرى حياتي
ــ حسنا حسنا ، مهدي يعقوب مزداد بالدار البيضاء بالمغرب ........ تتكلم الفرنسية إذا
ــ أتكلم العربية ن الفرنسية ، الالمانية و شيئا من الإنجليزية
ــ هذا رائع ، و ذكرت أنك كاتب ، اي أنواع الكتاب أنت ؟
ــ في الحقيقة أنا روائي مبتدئ ، و أدرس الصحافة و الإعلام هنا في ألمانيا ، غير أن هذا لا يمنع أني شاعر ، ليس لي مقام معين ، كما يبني الكتاب لأنفسهم مقاماتهم ، أفضل أن أكون حرا في كتاباتي ، و لم لا اختراع الجديد !
ــ شيء رائع حقا ، و هل تعتقد أنك قادر على حمل مسؤولية هذه الوظيفة ؟
ــ إذا كان الأمر مرتبطا بالحفظ ، فأخبرك أنني كنت أدبيا ، و كنا أحفظ دفاتر التاريخ و الجغرافية حفظا ، إلى جانب القانون الذي علي أن أحفظه الآن كحصة !
ــ لا أخفيك أمرا أن من كان قبلك في هذه الوظيفة كان مجدا و رائعا ، فإذا اخترناك لشغل منصبه ، فيجب عليك أن ترينا الأروع !
ــ سأعمل ما في وسعي يا سيدتي من أجل ذلك
ــ حسنا ، أعتقد أننا في بريد المدينة سنتشرف بك ، فلم يعمل معنا أبدا كاتب أدبي
ــ أتمنى أن أكون عند حسن ظنكم
ــ حسنا العمل يبتدئ في ورشاتنا في السابعة صباحا ، و هئا يعني أن الإنضباط في العمل أمر مفروغ منه ، واجب عليك أن تكون في الورشة في الساعة السابعة بالظبط ، أو قبلها و عملك ينتهي في الساعة الثانية عشرة ، غير أن هناك من يستغرق وقتا أطول حسب سرعة الحفظ و سيعة القدمين ، و نشتغل صباح السبت أيضا ، غير أننا لا نشتغل الإثنين ، و راتبك سيكون 780 أوروها في الشهر ، و بعد الضرائ ستصبح 700 أوروها ، أظن أن هذا كاف بالنسبة لطالب في الجامعة !
ــ ليس كافيا فحسب ، بل هو الهناء بعينه ، الحمد لله
ـت حسنا ، متى يمكنك البدأ معنا ؟
ــ بعد غد أكون جاهزا !
ــ حسنا شيء رائع ، و سأحضر لك في غد العقد لتقوم بتوقيعه ، و شيء آخر أود اخبارك به ، يجب عليك كساعي بريد تحمل مسؤولية البريد الذي تحمله ، تماما كرجل الأمن مع مسدسه العهدة !
تماما سيدتي !
ــ حسنا ، اراك في غد ، اليس كذلك
ــ إن شاء الله
و كان ينطق إن شاء الله باللغة العربية ، حتى إن كان مخاطبه يهز حاجبية تعجبا و استفسارا ، إلا أنه كان يقولها هكذا !
أول وظيفة رسمية في حياته كلها ، ما أحلى هذا الإحساس ، أن تملك مسؤولية نفسك ، و تدبر حياتك بعرق جبينك ! لا معنة لهذه الحياة كلها ، بدون عمل ، خلق الإنسان ليعمل و يتدبر رزقه ، و ليس لانتظار معونة أحد حتى و إن كان ذلك من والديه ، خرج إلى الشارع الكبير و الذي إلى الآن يذكره ، ذاك الشارع الذي أُهدي له فيه أول وظيفة رسمية في حياته ، و الحق أنه حتى في صغره كان يمني النفس بكسب بعض النقود ، خلال العطلة الصيفية ، و كان يطلب من والده ، أن يسمح له بالإشتغال في أي شيء ، غير أن هذا الأخير كان دائم الرفض ، و لا يمنه لومه ، لأنه في الأول و الأخير أب ، يخاف على فلذات أكباده ، فكان يخبره بكل ود و سكينة ، أن سيأتي الوقت الذي في سيتوجب عليك العمل فيه و تحمل المسؤولية ، أما الآن ، فما ضرك أن تتركني أعتني بصغاري ، و أدللهم ، و حياة كريمة لهم فيها أتسبب ! فكان يعشقه لكلماته ، و يذعن له ، غير أن طلباته ، لم تكن كثيرة ، كما كانت هي طلبات إخوانه ، بل كان يستحيي دائما أن يطلب من أبيه النقود ، حتى إذا أتى آخر الشهر جاء والده ، و دس في جيوبه بعضا منها ، و هو يعرف مسبقا أين و متى و على ماذا ستصرف ، فكان مطمئن البال ، و علم بينه و بين نفسه أنه و لا فخر ، لن يلاقي في تربية ابنه البكر صعوبات تذكر ، اللهم محاولاته العقيمة معه أن يخرج و يمرح مع أقرانه ، إلا أنه كان يعتذر مبتسما ، فعالمه الذي كان طفولته فيه يمارس ، عالم لا تدركه الأبصار ، أو على الأقل أبصار أقرانه ، أو حتى والديه ...
في اليوم الموالي ذهب و أمضى العقد ، و كان عقدا تنتهي صلاحيته بعد 3 اشهر تجريبية ، يمضي بعدها إذا أبدى تجاوبا و براعة في شغله ، عقدا بدون قيمة زمنية محددة ، و الحق أن مشغلته أخبرته مجازا ، أن من يمضي معها عقدا تجريبيا ، فقد ضمن بشكل جزئي مبدئي بقاءه في تلك الوظيفة ، فقد أخبرته أنه ليس من عادتها أن تطرد مستخدميها إلا في أضيق الظروف ، الشيء الذي أراحه شيئا ما ، ممنيا نفسه ببدايات حياة رائعة !
صباح يوم جديد ، صباح كان له أن يغير وجه عاداته ، استفاق في الفجر ، و أبى أن يداعب النوم جفنيه كما يفعل دائما ، لضيق الفترة الزمنية التي تربط الفجر ، بموعد خروجه من المنزل من أجل استلام وظيفته الجديدة ، استقل دراجته الهوائية ، و قصد العنوان المذكور ، و كانت الشوارع لا تزال خالية ، إلا من بعض العمال الئين تبدأ فترات عملهم موازية للسادسة صباحا ، وصل إلى مكان عمله ، و كان عبارة عن مكان فسيح ، صفت فيه مكاتب ، ووجد هناك الكثير من زملائه ، دخل على استحياء ، و حيا الجميع بصوت خافت ، فردوا تحيته ، بابتسامات خائفة ، و لم يكن ذلك ليثير استعجابه ، فقد اعتاد ذلك ، و فجأة سمع صوتا من ورائه يخاطبه :
ــ ياااكوب ؟
ــ نعم سيدي
ــ أنا رئيسك في العمل ، و اسمي ديتمر ، تشرفت بلقائك !
ــ و أنا أيضا
ــ لا تستح من زملائك ، سترى مع مرور الأيام أننا نكون فريقا منسجما هنا ، و فترتنا الصباحية في المكاتب لا تخلو من مزاح و دعابة و ضحك !
ــ هذا شيء يطمئن يا سيدي ، فأنا أيضا لا أستطيب الأجواء القاتمة !
ــ حسنا ، هذا بيتر ، و هو الذي كان يشغل المنصب الذي ستشغله حاليا ، و هو سيساعدك الآن و يريك خريطة عملك ، قبل أن يغادرك بعد غد ...
ـــ بعد غد ؟ أليست هذه الفترة قليلة نسبيا ؟ أخاف أن لا أتقن عملي من أول وهلة هكذا !
فتدخل بيتر قائلا :
ــ كان بودي أن أبقى معك أكثر ، غير أن سفري يمنعني ، على كل لن تصادف مشاكل في هذا العمل ، كل الزملاء سيهبون لمساعدتك في حال استعصى عليك أمر
ــ حسنا يا بيتر شكرا
ــ حسنا ، سأذهب إلى مكتبي في حال احتجت شيئا ما
ــ حسنا يا ديتمر ، أشكرك
جلس يااكوب إلى جانب بيتر ، و هو يرمق ما يفعل ، و كان يريه تقسيم الرسائل التي يجب عليه تفريقها ، و أعطاه لائحة من 5 أوراق مسطور فيها اسماء و عناوين المواطنين الئين معهم سيتعامل ، و بدا له الأمر صعبا في البداية ، المهم ، أن نصف العمل ينجز في المكتب ، و كان واعد نفسه أن يصنع لنفسه خطة خاصة به مخالفة عن تلك التي يستخدمها بيتر في الشغل ، فذلك سيسهل الأمر عليه من ناحية ، و من ناحية أخرى فالخطة الموضوعة من طرف الشخص نفسه نادرا ما تنسى ، حتى و إن كانت خاطئة أو وجد ما هو أحسن منها ، فمع مرور الزمن ، سيتعلم من أخطائه و يصححها ، و يرسم لنفسه طريقا مغايرا
ـــ هيا يا ياكوب ، هناك دراجة في الخلف خدها ، و اتبعني !
ــ حسنا ، يبدو الأمر مسليا ، كنت في بلدي أمتطي الدراجة ، و كان ذلك مغامرة في حد ذاته ، أما هنا في ألمانيا ، فالأمر مختلف ، يمكنني القيادة ، بكل أمان !
ــ التسلية الحقة ستأتيك بعد أن يتعود الناس عليك !
تبعه ، و رأى ما يفعل ، و كان بيتر سريعا جدا ، و لم يتمكن حقا من اتباع خطاه ، و مر اليومان في سرعة البرق ، و كان عليه في اليوم الثالث أن يتدبر شؤونه بنفسه ، و هذا ما كان ، غير أن يومه الأول كان شاقا جدا ، لم ينته منه إلى حدود الثانية بعد الزوال ، و لم يكن ديتمر ليعاتبه ، بل انتظره في المكتب ، حتى قدم ، لأنه كان آخر شخص أنهى جولته غير أنه كان سعيدا ... لأنه علم ، تلقائيا ، أنه نجح في أول اختبار له ، و كان حريصا على إتقان كل ما يعمله ، حتى لو تطلب منه الأمر الكثير من الجهد و الوقت
مع مرور الوقت اصبح يعقوب يعتاد عمله ، و أصبح له مع زملائه في العمل الفة ملحوظة ، و أصبح يفوق أقرانه و زملاءه حتى أصبحوا يطلقون عليه لقب : الإرهابي الصغير صاحب السجاد السحري ، في دلالة على سرعته ، و قد كان سريعا حقا ، و كان يجري بدراجته في المكان المخصص لمشي الدراجات بسرعة مذهلة ، و مشغل الأقراص في أذنيه ، و ساعده على سرعته حفظه لمنطقته التي تتجاوز ال 5 كيلومترات ، فحفظ الأسماء تقريبا ، و المحلات التجارية ، و أصبح عمله نزهة له ، نزهة حقيقة أحبها من كل قلبه ، و لعل ذلك ما جعله يحب عمله حتى النخاع حتى قال له رئيسه في العمل ذات مرة ممازحا :
اسمع يا يااكوب ، إذا وقع لك حادث و مشغل الأقراص في أذنيك ، فلن ارحمك ، و اعلم أنك في تلك الحالة تكون غير مؤمن على الحوادث
فأجابه
ــ يا ديتمر ، يا ديتمر ، كم مرة يجب علي أن أخبرك أنني أسخن أذناي فقط
ــ نعم نعم ! المهم أنا نصحتك فقط
كانت وظيفته محببة إليه جدا ، كان يحبها حبا جما ، و كان يعمل عمله بإخلاص شديد ، و يحرص على أن لا يقترف أخطاء ، و هذا ما أعجب رئيسه في العمل ، و ما أعجب زملاؤه ، و لحسن قدره ، أن البريد الذي كان يوصله ، لم يكن بريدا عاديا ، بل كان يوصل الفواتير ، و أحكام الإفراغ بالنسبة للمكترين الذين لم يدفعوا واجب الكراء ، و نحو ذلك ، فكان الزبناء الذين إليهم يوصل الرسائل يرحبون به ، و يمتعضون في نفس الوقت ، و ينتظرون رسائلهم بلهفة ، لينظروا ما تحوي ، و كثيرا ما كان يكافئ حسب المناسبات ، ففي أعياد الميلاد ، كان يحصل على الشوكولاتا و النقود ، و في الأيام العادية ، و إذا قدر له أن يوصل رسائلا لمتاجر معينة ، أو لخضار مثلا ، يفوز بتفاحة أو بمانجا، استمتع بعمله أيما استمتاع ، و كان أحسن الأعمال التي عملها في المانيا على الإطلاق ، و لم تكن المهنة ممتهنة قط بين الناس ، بل كان ساعي البريد يرتقي مكانة جميلة بين المجتمع ، باعتباره أداة الوصل بين المؤسسات الحكومية ، المختلفة و بين أفراد المجتمع الألماني ، و كانت وظيفته ايضا مصدر ثقافته ، فقد كان يحصل على الجرائد مجانا باعتبار شركته ، المسؤول عن توزيع الجرائد و الصحف ، فكان يأتي كل صباح ، و يحصل على نسخته مجانا ، فيقرأ ما تيسر مطالعا الأخبار بعد أن يكون قد رتب رسائله حسن المناطق ، فبعد أن كان يستغرق ساعة من أجل إنجاز ذلك أصبح ينجز ذلك في 15 دقيقة ، ليتبقى له بعد ذلك من الوقت الكثير ، فيه يقرأ الجرائد ، أو يشرب حليب الصباح ، أو يخرج قبل موعده ، لينتهي باكرا ، من أجل أن يرجع إلى منزله مبكرا ... و كانت جملته المعتادة : صباح الخير لدي بريد !! جملة محببة لسامعه ، حتى أن من بين المواقف المضحكة ، أن هناك كشكا تشرف عليه سيدة المانية عجوز ، و كانت كل يوم تتوصل ببريدها ، فكان حينما يردد جملته المعهودة تجيبه هي بكلمة نعم و هي بالالمانية : ياااااا بشكل منغم ملحون ، مثير للضحك ، فيبادلها الضحك ، و يناولها بريدها ، لتتمنى له بعد ذلك قضاء يوم سعيد ...
و كان المكتب بالنسبة إليه أكثر الأماكن التي تجعله يغرق في ضحك متواصل من القلب ، فبعض الألمان ، و الزملاء ، يبدعون في السخرية من حكوماتهم ، و البحث عن طرائف يقللون بها من روتين اليوم ، غير أن العامل المشترك بينهم كان حبهم لوضيفتهم ، فالبريد كان بالنسبة إليهم ، عالما فريدا ، و نافذة من خلالها يطلون على الشارع الألماني ، بتطلعاته ، آماله و همومه التي لا تحصى ، و كان مغمرة في حد ذاتها ، حينما يأتي فصل الشتاء ، و تمتلئ الأرض بياضا ، فيصبح عليهم ، و هم سواق الدراجات الهوائية ، أن يحافظوا على سلامة الرسائل ، و في نفس الوقت ، يحافظون على توازن دراجاتهم ، البريد ، ذلك العالم الحبيب ، الذي طالما احترمه ، كان له عالما ، فوق كل العوالم ، و لا يظن أن كل الناس أحبت أو تحب وظيفتها ، كما تعلق هو به قلبه ، فأحسه كشخص عزيز عليه ، يصعب عليه فراقه ...
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة