ذكريات طالب في بلاد الجرمان - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

ذكريات طالب في بلاد الجرمان

  نشر في 05 فبراير 2017 .

البريد ، ذلك العالم الحبيب ١

استيقظ صباح اليوم الموالي و علامات التعب بادية عليه ، بعد أن أمضى نصف ليلة خارج أسوار بيته ، لكنه و حين استرجاعه لشريط اللحظات التي عاشها ابتسم ابتسامة ارتياح و حمد الله مرة أخرى على هذه النعمة ! كانت الشمس ضحوكة هذا الصباح ، و لكنها لم تكن بتلك القوة الكافية لكسر هذا البرد الصقيعي الذي يترائى له عبر النافذة ، كان الثلج و لونه الأبيض مهيمنان لا يزالان على الأزقة و الشوارع ، و أسطح المنازل المثلثة ، ترجل من سريره ، و قصد مطبخه ، و حضر فطوره ، و جلس قدام النافذة يتناوله بتلذذ ، و يطلق بصره ، في المنظر الجميل الذي يأسر كل من له إبداع في حاسة نظره ، ثم التحف بملابسه ، و خرج … كان وقع حذائه على الدرج الخشبي ، يصدر أصواتا شبه مزعجة ، و كان شبه متأكد أنه و ما إن يصل الطابق السفلي حتى يجد السيدة إيديلتراوت كعادتها تنتظره ، في محاولة للظفر بمحادثة طويلة ، و فعلا ، كان تخمينه صحيحا ، فما أن عرج نحو باب العمارة حتى خرجت منادية :

ـ على رسلك سيد جيكوب ! ألم تتعلم في بلدك إلقاء تحية الصباح ! ؟

التفت نحوها بعد أن أخفى ضحكة صغيرة و قال ، متظاهرا بعدم توقعه له في هذه الساعة :

ـ أوه سيدة إيديلتراوت ، صباح الخير ، كيف حالك ، لم أتوقعك يقظى خلال هذه الساعة من الصباح !

ـ أيها الماكر ، أنت تعرف جيدا أنني استيقظ مبكرا ! هاه كيف حال ضرسك اليوم ؟

ـ بخير ! أنا اليوم بخير ، و قص عليها باختصار ما حدث معه الليلة السابقة ، و أصغت إليه باهتمام ، حتى إذا انتهى بادرته قائلة :

ـ جميل كنت قلقة من أجلك سيد جيكوب ! أنت فعلا إنسان طيب ، رغم أنك أجنبي !

ـ و أنت سيدة طيبة ، بالرغم من هذه النبرة النازية !

ـ هل أنتظرك على الغذاء ؟ سوف أطبخ لك طبقا ألمانيا لذيذا !

ـ أشكرك جدا على الدعوة سيدة إيديلتراوت ، و لكن اسمحي لي أن أعتذر لك اليوم ، و أعدك في يوم أن البيها ، علي أولا أن أذهب إلى وزارة العمل من أجل البحث عن عمل يساعدني في إتمام دراستي ها هنا !

ـ هاه ، و كيف تعيش إلى الآن بدون عمل ؟

ـ هناك والدي حفظه الله ، يرسل إلي ما تيسر كل شهر ، و لكني أحب أن أعتمد على نفسي ، خاصة و أننا في بلد يحترم الطلاب و العمال ، أليس كذلك ؟

ـ صدقت سيد جيكوب ، هيا اذهب ، كي لا تتأخر !

ـ رافقتك السلامة سيدة إيديلتراوت !

خرج من باب العمارة ، قابله القر الجليدي على وجهه ، فصدرت عنه حركة لا إرادية ، تنم عن تأثر جسده بهذا التحول السريع في الحرارة ، الذي يفصل داخل العمارة المكيف ، بهواء ألمانيا الخارجي ، ثم قصد الميترو الذي قاده إلى أقرب محطة من وزارة العمل ...

في غمار البحث عن وظيفة ، بعد أن استقر في الجامعة ، و رغبة منه في تخفيف الحمل على والده ، بدأ يبحث في الصحف و الجدران عن وظيفة تتلاءم و دراسته ، و الحق أن المانيا ، ملعب كبير ، لجميع من يريد البحث عن وظائف ، ذهب بعد ذلك إلى وزارة العمل ، و التي تخصص حيزا هاما من مبناها من أجل العاطلين عن العمل ، من أجل ربطهم برؤساء الشركات الذين يبحثون عن موظفين ، فوجد هناك خليطا من أجناس ، ألمانية ، و أجنبية ، هدفها الوحيد البحث عن وظيفة ، رغم أن المتواجدين من جنس الماني ، كان لهم الحق في مطالبة الحكومة بتعويض عن البطالة ، و الذي تحدد في القانون الألماني في 380 أوروها ، عدلت قبل أسابيع لتصبح وزارة الشغل هي من تدفع واجب الكراء ، ثم تمنحهم 100 أوروها من أجل العيش ، تبقى غير كافية في ظل الغلاء المتزامن و نموه شيئا فشيئا في هذه البلاد !

ملأ الإستمارة ،و انتظر دوره حتى نودي على اسمه من طرف أحد موظفات وزارة العمل ، دخل مستأذنا ، فأجابته بابتسامة ترحيب ، أن لُج ، و طلبت منه الجلوس بلطف ، و سألته :

ـ سيد جيكوب ! ها ، ما الذي يمكنني فعله من أجلك ؟

ـ حسنا سيدتي ، أنا طالب في الجامعة هنا ، و أريد البحث عن وظيفة ، نصف كاملة ، من أجل الإستعانة براتبها على عيشي هنا و دراستي !

ـ همم ، جميل ، هل لي أن أرى جواز سفرك ؟

ـ تفضلي سيدتي

ألقت نظرات متفحصة بين صفحاته ثم قالت :

ـ نعم كل شيء عندك قانوني ، و يمكنك البحث عن عمل ، ثم ضحكت لتلطيف الجو ممازحة : أنت في المكان المناسب ! و لكن لا تقلق سيد جيكوب ، فالأمر لن يتطلب الكثير من الوقت قبل أن نتصل بك ، فطلاب الجامعات هم الأكثر حظا هنا في المانيا فيما يخص الأعمال النصف كاملة !

ـ شيء مفرح ، حسن ، هذه هي الإستمارة التي طلبتم مني ملأها ، هاهي ، و سأنتظر مكالمتكم قريبا !

ـ شرفني لقاؤك سيد جيكوب

ودعها ثم خرج ، إلى ردهة وزارة العمل الألمانية في المدينة ، و كان البناء يحتوي في طابقه السفلي على بهو كبير نسبيا ، به حواسيب مثبثه ، ترسل فيها الوظائف الخالية و عناوين الشركات التي تبحث عن عمال ، فكان الباحثون عن عمل ، و الذين أودعوا استماراتهم لدى وزارة العمل ، يأتون إليها من أجل التعرف على جديد الطلبات و الوظائف ، و كان كل شيء هناك كخلية النحل ، كل حسب وجهته ، ثم هناك مكاتب تسلم فيها المعونات الشهرية للألمان الأصليين في البلد و المتجنسين ، معونة تقدمها الدولة للعاطلين في انتظار التحاقهم بوظائف جديدة ! و كان النظام و القوانين التي سنها المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر ، قد خففت كثيرا من وطأة الأزمة المالية العالمية التي أتت بعد ذلك في عهد مواطنته الحالية أنجيلا ميركل ، حيث سن قوانين ، تمكن الشركات من توظيف أناس عاطلين بأجل لا يتعدى ال ٥٠٠ يورو ، بشرط أن يعفوا بشكل كامل من الضرائب المفروضة على الشركات ، و كان لهذه القوانين تفاعل إيجابي للشركات الموظفة ، إذا علمنا أن القانون الضريبي الألماني يلزم الرؤساء بالدفع أكثر للأناس العاديين ، أما الطلبة ، و رواد الجامعات فيستفيدون من الكثير من الإمتيازات في جميع المجالات ، في دخول المسرح ، و السينما ، و الملعب ، و الكثير الكثير ، و لا فرق في هذا بين طالب الماني و آخر أجنبي ، لم يفقد الأمل ، فقد واعد نفسه ، و انتظر هذه الفترة التي تلي البحث عن وظيفة ، و النتيجة مضمونة في ألمانيا ، فإما أن تجد عملا قارا ، أو أن تتنقل بين وظائف مختلفة ، المهم أن جميع من يأتون ، يجدون وظيفة بشكل أو بآخر ، حتى لو انتهى بهم المطاف من جديد في ردهة وزارة الشغل

استيقظ في صباح ، و اشترى الصحف التي تبث بين سطورها ، إعلانات الشغل ، فوجد إعلانا عن وظيفة شاغرة ، لشغل وظيفة ساعي البريد بجنوب المدينة ، و لم يتردد في الإتصال بالرقم ، و كانت المجيبة ذات صوت يوحي بكبر سنها ، فأعطته موعدا للمقابلة ، و نصحته باصطحاب ةرقة تعريفية عنه و عن مساره الدراسي ، و سأل االله بعد نهاية المكالمة ، أن تكون هذه الوظيفة من نصيبه ، رغم أنه لا يعرف عنها شيئا ، خاصة إذا كان البريد يوزع في هذه البلاد بالدراجة النارية ، فهو لا يطيقها أبدا ، المهم أنه أخذ موعدا للمقابلة في اليوم الموالي

ذهب إلى السوبر ماركت الذي اكتشفه مؤخرا ، و الذي يعتبر أقل أسعارا من السوبر ماركت الذي كان يشتري منه حاجياته ، فذهب و دخله ، و كانت الأسعار فعلا متباينة ، فابتاع زجاجة بلاستيكية كبيرة من الشاي المثلج بمذاق الليمون ، و شوكولاته ، و بعض الحليب ، و ذهب إلى منزله من اجل إعداد الورقة التعريفية الخاصة به ، و كان ذلك بعد أن عاد من الجامعة ، و قد كان مقدرا أن يكون ذلك اليوم يوم ثلاثاء ، و هو يوم تمارينه الرياضية العنيفة ، إلا أنه استثنى هئا اليوم من قوائم التدريب ، دخل و سطر ما يجب عليه سطره ، و التهم ما اشتراه ، ثم نام ...

في صباح اليوم الموالي ، أخد على عاتقه أن لا يتأخر عن الموعد ، و أن يكون دقيقا ، و الحق أنه دائما يحترم مواعيده ، و يجده عيبا كبيرا يسقط فيه من يأتي بعد موعده بنصف ساعة ، فذلك اخلال بالإحترام للطرف الآخر ، و تقليل من أهمية الشخص من ناحية أخرى ، وصل البناية التي وصفتها له السيدة بعد عناء ن فقد كان عليه أن يركب في الميترو مرتين ، و البحث المضني حتى أنه كان سيتأخر دقيقة عن موعده إلا أن الله لطف ووجد العنوان أخيرا

دخل فرمقته السكريتيرة بنظرة سائلة :

ــ كيف يمكنني مساعدتك يا سيدي ؟

ــ لدي موعد مع السيدة ألكسندرا ، أنا السيد مهدي يعقوب

ــ نعم صحيح ، تفضل ، سأخبرها بقدومك رجاء

ــ حسنا شكرا لك

أتت بعد ثوان ، تخبره بأن السيدة جاهزة للمقابلة ، جمع أوراقه بين يديه ، و دخل ، و حياها بتحية باسمة

ــ أهلا سيدتي ، أنا يعقوب ، لدي موعد معك !

ــ أهلا اهلا ، نعم أتذكر مكالمتنا

ــ حسنا

ــ حسنا ارني ما لديك أيها الشاب

ــ تفضلي سيدتي ، هذه ورقة تعريفية عني و عن مجرى حياتي

ــ حسنا حسنا ، مهدي يعقوب مزداد بالدار البيضاء بالمغرب ........ تتكلم الفرنسية إذا

ــ أتكلم العربية ن الفرنسية ، الالمانية و شيئا من الإنجليزية

ــ هذا رائع ، و ذكرت أنك كاتب ، اي أنواع الكتاب أنت ؟

ــ في الحقيقة أنا روائي مبتدئ ، و أدرس الصحافة و الإعلام هنا في ألمانيا ، غير أن هذا لا يمنع أني شاعر ، ليس لي مقام معين ، كما يبني الكتاب لأنفسهم مقاماتهم ، أفضل أن أكون حرا في كتاباتي ، و لم لا اختراع الجديد !

ــ شيء رائع حقا ، و هل تعتقد أنك قادر على حمل مسؤولية هذه الوظيفة ؟

ــ إذا كان الأمر مرتبطا بالحفظ ، فأخبرك أنني كنت أدبيا ، و كنا أحفظ دفاتر التاريخ و الجغرافية حفظا ، إلى جانب القانون الذي علي أن أحفظه الآن كحصة !

ــ لا أخفيك أمرا أن من كان قبلك في هذه الوظيفة كان مجدا و رائعا ، فإذا اخترناك لشغل منصبه ، فيجب عليك أن ترينا الأروع !

ــ سأعمل ما في وسعي يا سيدتي من أجل ذلك

ــ حسنا ، أعتقد أننا في بريد المدينة سنتشرف بك ، فلم يعمل معنا أبدا كاتب أدبي

ــ أتمنى أن أكون عند حسن ظنكم

ــ حسنا العمل يبتدئ في ورشاتنا في السابعة صباحا ، و هئا يعني أن الإنضباط في العمل أمر مفروغ منه ، واجب عليك أن تكون في الورشة في الساعة السابعة بالظبط ، أو قبلها و عملك ينتهي في الساعة الثانية عشرة ، غير أن هناك من يستغرق وقتا أطول حسب سرعة الحفظ و سيعة القدمين ، و نشتغل صباح السبت أيضا ، غير أننا لا نشتغل الإثنين ، و راتبك سيكون 780 أوروها في الشهر ، و بعد الضرائ ستصبح 700 أوروها ، أظن أن هذا كاف بالنسبة لطالب في الجامعة !

ــ ليس كافيا فحسب ، بل هو الهناء بعينه ، الحمد لله

ـت حسنا ، متى يمكنك البدأ معنا ؟

ــ بعد غد أكون جاهزا !

ــ حسنا شيء رائع ، و سأحضر لك في غد العقد لتقوم بتوقيعه ، و شيء آخر أود اخبارك به ، يجب عليك كساعي بريد تحمل مسؤولية البريد الذي تحمله ، تماما كرجل الأمن مع مسدسه العهدة !

تماما سيدتي !

ــ حسنا ، اراك في غد ، اليس كذلك

ــ إن شاء الله

و كان ينطق إن شاء الله باللغة العربية ، حتى إن كان مخاطبه يهز حاجبية تعجبا و استفسارا ، إلا أنه كان يقولها هكذا !

أول وظيفة رسمية في حياته كلها ، ما أحلى هذا الإحساس ، أن تملك مسؤولية نفسك ، و تدبر حياتك بعرق جبينك ! لا معنة لهذه الحياة كلها ، بدون عمل ، خلق الإنسان ليعمل و يتدبر رزقه ، و ليس لانتظار معونة أحد حتى و إن كان ذلك من والديه ، خرج إلى الشارع الكبير و الذي إلى الآن يذكره ، ذاك الشارع الذي أُهدي له فيه أول وظيفة رسمية في حياته ، و الحق أنه حتى في صغره كان يمني النفس بكسب بعض النقود ، خلال العطلة الصيفية ، و كان يطلب من والده ، أن يسمح له بالإشتغال في أي شيء ، غير أن هذا الأخير كان دائم الرفض ، و لا يمنه لومه ، لأنه في الأول و الأخير أب ، يخاف على فلذات أكباده ، فكان يخبره بكل ود و سكينة ، أن سيأتي الوقت الذي في سيتوجب عليك العمل فيه و تحمل المسؤولية ، أما الآن ، فما ضرك أن تتركني أعتني بصغاري ، و أدللهم ، و حياة كريمة لهم فيها أتسبب ! فكان يعشقه لكلماته ، و يذعن له ، غير أن طلباته ، لم تكن كثيرة ، كما كانت هي طلبات إخوانه ، بل كان يستحيي دائما أن يطلب من أبيه النقود ، حتى إذا أتى آخر الشهر جاء والده ، و دس في جيوبه بعضا منها ، و هو يعرف مسبقا أين و متى و على ماذا ستصرف ، فكان مطمئن البال ، و علم بينه و بين نفسه أنه و لا فخر ، لن يلاقي في تربية ابنه البكر صعوبات تذكر ، اللهم محاولاته العقيمة معه أن يخرج و يمرح مع أقرانه ، إلا أنه كان يعتذر مبتسما ، فعالمه الذي كان طفولته فيه يمارس ، عالم لا تدركه الأبصار ، أو على الأقل أبصار أقرانه ، أو حتى والديه ...

في اليوم الموالي ذهب و أمضى العقد ، و كان عقدا تنتهي صلاحيته بعد 3 اشهر تجريبية ، يمضي بعدها إذا أبدى تجاوبا و براعة في شغله ، عقدا بدون قيمة زمنية محددة ، و الحق أن مشغلته أخبرته مجازا ، أن من يمضي معها عقدا تجريبيا ، فقد ضمن بشكل جزئي مبدئي بقاءه في تلك الوظيفة ، فقد أخبرته أنه ليس من عادتها أن تطرد مستخدميها إلا في أضيق الظروف ، الشيء الذي أراحه شيئا ما ، ممنيا نفسه ببدايات حياة رائعة !

صباح يوم جديد ، صباح كان له أن يغير وجه عاداته ، استفاق في الفجر ، و أبى أن يداعب النوم جفنيه كما يفعل دائما ، لضيق الفترة الزمنية التي تربط الفجر ، بموعد خروجه من المنزل من أجل استلام وظيفته الجديدة ، استقل دراجته الهوائية ، و قصد العنوان المذكور ، و كانت الشوارع لا تزال خالية ، إلا من بعض العمال الئين تبدأ فترات عملهم موازية للسادسة صباحا ، وصل إلى مكان عمله ، و كان عبارة عن مكان فسيح ، صفت فيه مكاتب ، ووجد هناك الكثير من زملائه ، دخل على استحياء ، و حيا الجميع بصوت خافت ، فردوا تحيته ، بابتسامات خائفة ، و لم يكن ذلك ليثير استعجابه ، فقد اعتاد ذلك ، و فجأة سمع صوتا من ورائه يخاطبه :

ــ ياااكوب ؟

ــ نعم سيدي

ــ أنا رئيسك في العمل ، و اسمي ديتمر ، تشرفت بلقائك !

ــ و أنا أيضا

ــ لا تستح من زملائك ، سترى مع مرور الأيام أننا نكون فريقا منسجما هنا ، و فترتنا الصباحية في المكاتب لا تخلو من مزاح و دعابة و ضحك !

ــ هذا شيء يطمئن يا سيدي ، فأنا أيضا لا أستطيب الأجواء القاتمة !

ــ حسنا ، هذا بيتر ، و هو الذي كان يشغل المنصب الذي ستشغله حاليا ، و هو سيساعدك الآن و يريك خريطة عملك ، قبل أن يغادرك بعد غد ...

ـــ بعد غد ؟ أليست هذه الفترة قليلة نسبيا ؟ أخاف أن لا أتقن عملي من أول وهلة هكذا !

فتدخل بيتر قائلا :

ــ كان بودي أن أبقى معك أكثر ، غير أن سفري يمنعني ، على كل لن تصادف مشاكل في هذا العمل ، كل الزملاء سيهبون لمساعدتك في حال استعصى عليك أمر

ــ حسنا يا بيتر شكرا

ــ حسنا ، سأذهب إلى مكتبي في حال احتجت شيئا ما

ــ حسنا يا ديتمر ، أشكرك

جلس يااكوب إلى جانب بيتر ، و هو يرمق ما يفعل ، و كان يريه تقسيم الرسائل التي يجب عليه تفريقها ، و أعطاه لائحة من 5 أوراق مسطور فيها اسماء و عناوين المواطنين الئين معهم سيتعامل ، و بدا له الأمر صعبا في البداية ، المهم ، أن نصف العمل ينجز في المكتب ، و كان واعد نفسه أن يصنع لنفسه خطة خاصة به مخالفة عن تلك التي يستخدمها بيتر في الشغل ، فذلك سيسهل الأمر عليه من ناحية ، و من ناحية أخرى فالخطة الموضوعة من طرف الشخص نفسه نادرا ما تنسى ، حتى و إن كانت خاطئة أو وجد ما هو أحسن منها ، فمع مرور الزمن ، سيتعلم من أخطائه و يصححها ، و يرسم لنفسه طريقا مغايرا

ـــ هيا يا ياكوب ، هناك دراجة في الخلف خدها ، و اتبعني !

ــ حسنا ، يبدو الأمر مسليا ، كنت في بلدي أمتطي الدراجة ، و كان ذلك مغامرة في حد ذاته ، أما هنا في ألمانيا ، فالأمر مختلف ، يمكنني القيادة ، بكل أمان !

ــ التسلية الحقة ستأتيك بعد أن يتعود الناس عليك !

تبعه ، و رأى ما يفعل ، و كان بيتر سريعا جدا ، و لم يتمكن حقا من اتباع خطاه ، و مر اليومان في سرعة البرق ، و كان عليه في اليوم الثالث أن يتدبر شؤونه بنفسه ، و هذا ما كان ، غير أن يومه الأول كان شاقا جدا ، لم ينته منه إلى حدود الثانية بعد الزوال ، و لم يكن ديتمر ليعاتبه ، بل انتظره في المكتب ، حتى قدم ، لأنه كان آخر شخص أنهى جولته غير أنه كان سعيدا ... لأنه علم ، تلقائيا ، أنه نجح في أول اختبار له ، و كان حريصا على إتقان كل ما يعمله ، حتى لو تطلب منه الأمر الكثير من الجهد و الوقت

مع مرور الوقت اصبح يعقوب يعتاد عمله ، و أصبح له مع زملائه في العمل الفة ملحوظة ، و أصبح يفوق أقرانه و زملاءه حتى أصبحوا يطلقون عليه لقب : الإرهابي الصغير صاحب السجاد السحري ، في دلالة على سرعته ، و قد كان سريعا حقا ، و كان يجري بدراجته في المكان المخصص لمشي الدراجات بسرعة مذهلة ، و مشغل الأقراص في أذنيه ، و ساعده على سرعته حفظه لمنطقته التي تتجاوز ال 5 كيلومترات ، فحفظ الأسماء تقريبا ، و المحلات التجارية ، و أصبح عمله نزهة له ، نزهة حقيقة أحبها من كل قلبه ، و لعل ذلك ما جعله يحب عمله حتى النخاع حتى قال له رئيسه في العمل ذات مرة ممازحا :

اسمع يا يااكوب ، إذا وقع لك حادث و مشغل الأقراص في أذنيك ، فلن ارحمك ، و اعلم أنك في تلك الحالة تكون غير مؤمن على الحوادث

فأجابه

ــ يا ديتمر ، يا ديتمر ، كم مرة يجب علي أن أخبرك أنني أسخن أذناي فقط

ــ نعم نعم ! المهم أنا نصحتك فقط

كانت وظيفته محببة إليه جدا ، كان يحبها حبا جما ، و كان يعمل عمله بإخلاص شديد ، و يحرص على أن لا يقترف أخطاء ، و هذا ما أعجب رئيسه في العمل ، و ما أعجب زملاؤه ، و لحسن قدره ، أن البريد الذي كان يوصله ، لم يكن بريدا عاديا ، بل كان يوصل الفواتير ، و أحكام الإفراغ بالنسبة للمكترين الذين لم يدفعوا واجب الكراء ، و نحو ذلك ، فكان الزبناء الذين إليهم يوصل الرسائل يرحبون به ، و يمتعضون في نفس الوقت ، و ينتظرون رسائلهم بلهفة ، لينظروا ما تحوي ، و كثيرا ما كان يكافئ حسب المناسبات ، ففي أعياد الميلاد ، كان يحصل على الشوكولاتا و النقود ، و في الأيام العادية ، و إذا قدر له أن يوصل رسائلا لمتاجر معينة ، أو لخضار مثلا ، يفوز بتفاحة أو بمانجا، استمتع بعمله أيما استمتاع ، و كان أحسن الأعمال التي عملها في المانيا على الإطلاق ، و لم تكن المهنة ممتهنة قط بين الناس ، بل كان ساعي البريد يرتقي مكانة جميلة بين المجتمع ، باعتباره أداة الوصل بين المؤسسات الحكومية ، المختلفة و بين أفراد المجتمع الألماني ، و كانت وظيفته ايضا مصدر ثقافته ، فقد كان يحصل على الجرائد مجانا باعتبار شركته ، المسؤول عن توزيع الجرائد و الصحف ، فكان يأتي كل صباح ، و يحصل على نسخته مجانا ، فيقرأ ما تيسر مطالعا الأخبار بعد أن يكون قد رتب رسائله حسن المناطق ، فبعد أن كان يستغرق ساعة من أجل إنجاز ذلك أصبح ينجز ذلك في 15 دقيقة ، ليتبقى له بعد ذلك من الوقت الكثير ، فيه يقرأ الجرائد ، أو يشرب حليب الصباح ، أو يخرج قبل موعده ، لينتهي باكرا ، من أجل أن يرجع إلى منزله مبكرا ... و كانت جملته المعتادة : صباح الخير لدي بريد !! جملة محببة لسامعه ، حتى أن من بين المواقف المضحكة ، أن هناك كشكا تشرف عليه سيدة المانية عجوز ، و كانت كل يوم تتوصل ببريدها ، فكان حينما يردد جملته المعهودة تجيبه هي بكلمة نعم و هي بالالمانية : ياااااا بشكل منغم ملحون ، مثير للضحك ، فيبادلها الضحك ، و يناولها بريدها ، لتتمنى له بعد ذلك قضاء يوم سعيد ...

و كان المكتب بالنسبة إليه أكثر الأماكن التي تجعله يغرق في ضحك متواصل من القلب ، فبعض الألمان ، و الزملاء ، يبدعون في السخرية من حكوماتهم ، و البحث عن طرائف يقللون بها من روتين اليوم ، غير أن العامل المشترك بينهم كان حبهم لوضيفتهم ، فالبريد كان بالنسبة إليهم ، عالما فريدا ، و نافذة من خلالها يطلون على الشارع الألماني ، بتطلعاته ، آماله و همومه التي لا تحصى ، و كان مغمرة في حد ذاتها ، حينما يأتي فصل الشتاء ، و تمتلئ الأرض بياضا ، فيصبح عليهم ، و هم سواق الدراجات الهوائية ، أن يحافظوا على سلامة الرسائل ، و في نفس الوقت ، يحافظون على توازن دراجاتهم ، البريد ، ذلك العالم الحبيب ، الذي طالما احترمه ، كان له عالما ، فوق كل العوالم ، و لا يظن أن كل الناس أحبت أو تحب وظيفتها ، كما تعلق هو به قلبه ، فأحسه كشخص عزيز عليه ، يصعب عليه فراقه ...


  • 1

  • يعقوب مهدي
    اشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة
   نشر في 05 فبراير 2017 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا