وحيد هناك بغرفة من ذلك المنزل الكئيب الذي مع مرور الزمن اصبحت قطعة منه و صار جزءا مني ..سحبت الستائر و فتحت النافذة لأزيل فضول الضوء الدائم لإكتشاف تلك الغرفة ..واكتشاف اسرارها
..كالعادة و مثل كل مسؤول بهذا البلد لاشيء في مكانه المناسب ..فكل شيء كان من حولي مبعثرا ملابس متناثرة هنا وهناك... .ابواب نصف مغلقة و فناجين من القهوة بعضها فارغ و البعض الاخر لا ادري!!!؟
إنتظر لألقي عليها نظرة ..فارغة ايضا ..
لا اذكر اني احتسيت كل هذا القدر من القهوة و لكن هذا لم يعد مهما ..
الكثير من الكتب هناك فوق المكتب مكدسة مثل احلامي تترقب بفارغ الصبر من يفتحها و يزيل عنها غبار الانتظار ..
اوراق ممزقة مرمية بعشوائية فوق الارضية و عنكبوت تخيط ثيابها بالزاوية .
كانت الفوضى تعم المكان بحيث انها لم تكتفي بالإستيلاء على غرفتي و منزلي فقط بل تجاوزت ذلك لتقتحم الجدران بداخلي و تحدث إزدحاما بافكاري ..و لم أعد أبالي ..
زرت الطبيب باليوم التالي و اخبرني اني اعاني و لكنه لم يذكر إسم المرض او سبب كل هذا الحزن لم يسالني لماذا اقدمت على الانتحار ..
قال فقط اني لازلت اعاني و ان قلبي صار باردا لا يبالي ...
لم يخبرني الطبيب بأي شيء جديد عني ..فكل ما قاله كنت اعرفه ..سوى تلك الوصفة التي مزقتها فور خروجي من مكتبه بحجة اني لا ابالي حقا...
واصلت طريقي متجها نحو المنزل و انا اقلب صفحات لمجلة تعاني التهميش هناك فوق الطرقات مصادفة التقت عيناي بعنوان كبير يقول ان الفوضى اصبحت نمط حياة .
تساءلت مستغربا ..هل حقا الفوضى اصبحت نمط حياة ..؟
و تابعت قراءة تلك الاسطر و لكن هذه المرة بقليل من المبالاة احسست انهم يتحدثون عن جزء مني و ليس من حياتي ...
كانت مقالة تحمل في طياتها جل معاني الفوضى و كيف غدت بيومنا هذا اسلوب حياة عند الكثير من الفنانين و العباقرة و اسلوبا يعتمده الكثير من الرسامين ..
و لكنهم لم يقولوا شيئا عن المجانين ..لم يقولوا شيئا عني و عن الفوضى بداخلي
فالفوضى ليست نمطا جديدا للحياة بالنسبة لي بل هي قديمة بعالمي ..
مزقت ذلك العنوان و تركت تلك المجلة هناك بالرصيف فانا لست ملجأ للأيتام
عدت الى المنزل .أغلقت باب الغرفة و إكتفيت بالنظر من وراء بلور النافذة الى حركة السيارات و ضجيج البشر ..أنظر الى كل شيء و الى اللاشيء في نفس الوقت ..كنت بلا عقل و لم افكر في اي شيء ..فقد تناولت عقلي في مأدبة عشاء ..
قالت و هي تناديني :تعال يا بني فالغداء صار جاهزا
إعذريني يا اماه
عذرا فلم يعد لي شهية في الاكل و لا في الكلام و لا حتى في العيش ..
اريد ان اصوم عن كل شيء فشهر من الصيام لم يكن كافيا بالنسبة لي و حتى السنوات الطويلة من البوح و الكلام لم تساعدني يوما على تحسين مزاجي بل كنت كل يوم مثل الاحمق اكشف عن مدى غبائي و ضعفي امام بعض البشر ..
آسف يا جدتي فلم اعد أجيد فعل شيء
لقد اصبح الصمت و الكتمان هوايتي المفضلة
إقتربت جدتي من عتبة الباب ..قالت بصوتها الدافيء :لا تقلق يا ولدي انا هنا حين يخذلك الجميع و سأبقى ..
فتحت باب الغرفة و إرتميت بين احضانها ..عانقتني و ضمتني إليها بحرارة ..كانت عالما آخر لا يقارن بهذا العالم السخيف ..إزدحمت بيننا الدموع و تراصت بيننا الكثير من المشاعر و الاحاسيس ..
راحت تربت على كتفي و تقول :
ما الذي اصابك يا صغيري؟
كنت في الرابعة من عمرك مثل الملاك بعينين جميلتين و وجه دائري صغير و شعر حريري بلون الليل
لقد كنت طفلا جميلا و مرحا ..تقضي النهار كله في اللعب و اللهو دون كلل او ملل ..
كنت صاحب صوت مسموع بالمنزل ..لم تكن تكف عن الضحك و إفتعال المشاكل اينما حللت
كنت مشاغبا و كان لشغبك حلاوته الخاصة بهذا المنزل .تنتقل بين الغرف بسرعة مثل نحلة او فراشة بين زهور الياسمين و الريحان .لم تكن تجمع الرحيق بل كنت تنثر عسل التفاؤل و السعادة و الحب في أرجاء هذا المنزل الفسيح .
مثل الشعلة كنت يا بني لا تطفؤك الا تعويذات المساء و لا يخمد نيرانك الا لعنات التعب و الارهاق
لنصحو مجددا على ضحكاتك و صرخاتك ..و إبتسامتك الجميلة التي كانت تزيل عتمة الكآبة بهذا المكان ..
حماسك الزائد و رغبتك في الحياة كانت تزداد كل يوم ..
فما بالك اليوم يا ولدي و ما بال تلك الشعلة بداخلك ..لم اكن اظن يوما انها ستنطفيء بهذه السرعة و سيتلاشى
وميضها و تخمد الى الابد ..
كنت أصغي الى كلمات جدتي المحملة بعبيق الماضي .. و لم أستطع التوقف عن البكاء و لا انا إستطعت التحدث عن اشياء ..فالدموع احيانا ما تنوب عن الكلمات و تلخص ما يعجز عن قوله العقل والقلب في بضع قطرات
حركت جدتي يدها نحو صدرها و هي تبحث عن منديلها الحريري القديم الذي كان يكبرني سنا .لتزيل عن وجهي وشاح الحزن و تجفف بعض العبرات ..
قالت بكلمات متقطعة ..لا تبكي يا صغيري لا اريد ان أرى المزيد من العبرات فوق هذا الوجه الجميل ..
انا اعرف أني لن أكون يوما بمثابة أمك مهما فعلت
فقط أحاول ان أملأ بعض الفراغ الذي تركته بداخلك منذ رحيلها
كنت في السابعة من عمرك حين بدأت المشاكل تقتحم عالمك الصغير و تفسد أمواجها قلاع السعادة بداخلك
لم تكن علاقة والديك جيدة آنذاك ..بل كانت تزداد سوءا رغم حديثي المطول اليهما كل مرة و محاولاتي الفاشلة لإعادة المياه الى مجراها الطبيعي ..حاولت مرارا و تكرارا الحفاظ على علاقتهما.. و كل تلك المحاولات كانت لاجلك يا بني و لأجل سعادتك و لكنني لم أفلح و لم يكن لصوتي صدا بهذا المنزل ...
كانت الايام لا تمضي بدون شجار او خصام بين والديك ...
إزداد التوتر و تفاقم الوضع و لم يكن لصراخهما نهاية ..
لم استطع فعل شيء حينها صدقني ..سوى محاولة إبعادك قدر الإمكان على مشاكلهم الخاصة و صراعاتهم الدائمة
و لكني لم أستطع فعل شيء بذلك اليوم ..خرج كل شيء عن السيطرة حين اغلق عليها الباب و راح يبرحها ضربا امام عينيك ..بدون مبالاة او إحترام لمشاعرك او مراعاة احاسيسك ..
لم نستطع انا و جدك فعل شيء سوى دفع الباب بقوة ومحاولة فتحه ..و تهدئة والدك ببضع عبارات و تهديده بأخرى ..
لقد رأيت بذلك اليوم كل شيء و فهمت كل ما حدث و لكنك حاولت التظاهر بعدم فهمك للوضع
لقد أخفيت كل الاحداث بذلك القلب الصغير ..
لم تبكي و لم تصرخ ..أي هدوء و اي صبر ذلك الذي كنت تملكه ..
تغيرت ملامحك و لزمت الصمت في حين توقعت منك الكثير ..
واصلت جدتي حديثها و هي تحاول إلتقاط أنفاسها و لملمة جراح الماضي بأعماقها
كان يوما اسودا يا ولدي لم أستطع فيه إقناعك بان كل شيء على ما يرام ..خاصة و انت ترى ذلك المشهد و أي مشهد كان ...
مشهد لأمك و هي توضب أغراضها و تحزم حقيبتها .حاملة دموعها و احلامها المكسرة معلنة عن الرحيل
لم تقل امك شيئا ..لم تقبلك و لا هي ودعتك ..صورة قاسية و مشهد مظلم لازال عالقا بذاكرتك لحد الان انا اعلم .
فطوال السنوات الاخيرة كنت تصرخ اثناء نومك و تردد عبارة ..لا ترحلي لا ترحلي ارجوك ...و عبارات اخرى غير مفهومة ..كلمات خبأتها بقلبك ..عبارة لم تقلها لأمك و هي
تجر حقيبتها نحو الباب
.بصوت مبحوح تابعت جدتي حديثها و هي تحاول الاعتذار عن اشياء لم تفعلها
سامحني يا ولدي إن أخطأت في حقك و لم اراعي مشاعرك ذات يوم .. سامحني لانني لم استطع فعل شيء حيال امك
..فيد القدر اعلى سلطة من ايادي كل البشر .
لقد احببتك من كل قلبي ..احببتك اكثر من إبني ..حاولت دائما ان اكون بقربك ان اصغي الى حزنك .ان اضمد انكساراتك و اعوضك عن خساراتك المتلاحقة فعلت كل ما بوسعي كي اكون بمثابة امك...
رفعت اكمامي ..مسحت دموعي و قاطعتها قائلا : لا تقولي هذا يا أماه ..ليس هناك ما يجب ان تعتذري عنه فانت قمت بكل شيء
لقد كنت الاب و الام في غيابهما ..إحتضنتني و غمرتني بعطفك منذ صغري .منحتني من الحب و الحنان مالم يمنحاني إياه في وجودهما ..تقبلتني كما انا بقبحي و جمالي بصراخي ..بفضولي .. و هدوئي ..
من البداية كنت و لازلت اروع و اجمل أم في عيني و ستظلين ..
فانا لا انكر كم هي هائلة تلك القوة التي بذلتها لأجل ان تريني اليوم كبيرا في عينيك ...
لقد كنت مغفلا و احمقا حين قررت الانتحار و التخلي عنك ..اتمنى ان تسامحيني لاني لم اقدر حبك لم افكر فيك و لا في مشاعرك و انت تتلقين خبر وفاتي مثل الصدمة .
لقد كنت ضعيفا حين تخليت عنك و جبانا حين قررت إنهاء حياتي و الانتحار أمام عينيك ..
كنت انانيا و لم اقدر تضحياتك الجبارة لأجلي و لأجل سعادتي ..
آسف حقا فلم أعد اتمنى شيئا في هذا العالم سوى رضاك ..
وضعت جدتي يديها على رأسي و أضافت قبلة على جبيني و هي تقول : لازلت مشاكسا كما عهدتك يا مدللي ..انا أسامحك يا بني و لكن شرط ان تعدني بان تبقى هنا بجانبي و لاتتخلى عني مهما حدث ..
عدني بأن تبقى قويا و صامدا مهما خانتك الحياة و مهما قست عليك الايام ..
أعدك يا أمي ..انا أعدك ..
حفضك الله يا ولدي
إني أشتم رائحة غريبة
شيء ما يحترق .اظن اني نسيت شيئا فوق الموقد ..
وهمت الى المطبخ مسرعة وهي تصوب نحوي بعض الكلمات
لا تنسى تنظيف الغرفة و ترتيب الفوضى التي تعمها يا وسيم
حسنا يا أمي ..
أمي ..!
و هي تلتفت الي ..نعم يا بني ؟
انا أحبك. .
كانت آخر كلمة قلتها لها قبل وقوع ذلك الانفجار
. .
-
Abdelghani moussaouiأنا الذي لم يتعلم بعد الوقوف مجددا، واقع في خيبتي
التعليقات
خرجت عن المألوف و صورت لنا اروع لوحة
وضعت عقدة بالبداية و أنهيتها بماجأة جديدة و تشويق من نوع آخر ...أبدعت حقا
نصك عبقري بامتياز..
أخي عبدالغني إني أرى نجمك يسطع في الأفق القريب..