خريطة تتقلص - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

خريطة تتقلص

قصة قصيرة

  نشر في 15 ديسمبر 2019  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

جدتي... لم أجد الإبرة الكبيرة التي تريدينها، لا يوجد في الصندوق سوى إبر صغيرة، أزرار سوداء، ورقة تحتوي على رقم نصفه ممحي، ومفتاح كبير يملأه الصدى، ولكن ما هذا المفتاح ولمَ تحتفظين به.

اقتربت الجدة من الصندوق ثم أخذت المفتاح وقبلته قائلة: هذا مفتاح بيتي الكائن في مدينة القدس يا "أليف"، أحتفظ به منذ ث 53 عاماً.

"أليف": لمَ احتفظتِ به كل هذه المدة، كنتِ تتمنين العودة، ألم يعجبك العيش في أنقرة؟.

"الجدة": لا يوجد مقارنة يا "أليف"، القدس وطني المسروق أما نحن في أنقرة لاجئين.

"أليف": جدتي حدثيني ما جرى في العام السابع والستين عندما رحلتِ من فلسطين، وحدثيني

عن عمتي المفقودة وعمي "عكرمة" وجدي "أسامة"، ولماذا أبي يتجنب الحديث عن جدي.

"الجدة": كبرتي يا "أليف" وزادت اسئلتك، لمَ تريدين إيقاظ الوجع النائم في قلبي، حسناً أعدي لنا كوبين من "اليانسون" ثم سأحدثك عن كل شيء.

جلست الجدة على الأريكة واضعة يدها على العصاة ناظرة إلى النافذة ثم أخذت تردد:

كيف يعقل لوطن مخلوق من روائح نبي أن يكون قضية لاجئين.

كيف لقضية أن تكتب حروفها بحبر دماء ودموع سجين.

بأي حق هدموا الحجر الكنعاني وبأي دين.

بأي جرأة بدلوا المخطوطات وزورو لهجة صلاح الدين.

ألم يتأثروا بقافية شوقي وطوقان وكنفاني المليئة بالحنين.

أو أنهم لم يروا رسومات العلي التي انبعث من ألوانها همسات ملائكة وصوت رنين.

ثم أخذت كوب "اليانسون" من يدي حفيدتها وبدأت بالتحدث قائلة:

نكسة السابع والستين لم تكن بالأمر الهين أبداً، فقد نشبت الحرب بين "إسرائيل" وكل من "مصر" و"سوريا" و"الأردن" في الخامس من حزيران، وكان هناك أكثر من سبب لنشوب هذه الحرب ومن أهمها انتصار "مصر" في العدوان الثلاثي، فظل لدى "إسرائيل" رغبة قوية في إعادة شن الهجمات على "مصر" ومحاولة السيطرة على "سيناء "، أما السبب الأكثر حدة كان إعلان "جمال عبد الناصر" قيامه بإغلاق مضيق "تيران" في وجه الملاحة البحرية الإسرائيلية.

ونتيجة هذه الحرب قامت "إسرائيل" باحتلال "سيناء" و"قطاع غزة" و"الضفة الغربية" و"الجولان"، كما نتج عنها عشرات الألاف من الشهداء والجرحى وفتح باب الاستيطان في "القدس الشرقية" و"الضفة الغربية"، وقد ساد العالم في ذاك الوقت جو من الحزن العارم والإحباط.

كان عمري في ذلك الوقت ما يقارب الخامس والثلاثين، أم لثلاثة أولاد "عكرمة" 21 عام، و"فوزية" 14 عام وأبيكِ "ظافر" كان في ذاك الوقت لم يتم عامه الثاني، وفي مرار هذه الأحداث ضاعت ابنتي "فوزية" وقد بكيت عليها دماً، ثم جاء يوم الأثنين الذي لم أنساه في حياتي والذي دون في كتب العار، في هذا اليوم جاء إلي ابني "عكرمة" وقال لي يا أمي لا تبوحي بسرك حتى للريح، قلت له حينها ما الذي ترمي به من ورائك كلامك هذا، بالمناسبة يا "أليف" عمك "عكرمة" كان اسمه "هيثم" ولكن "عكرمة" كان لقبه، فقد لقبوه بهذا الاسم ثوار القدس وذلك تيمناً بالصحابي "عكرمة بن أبي جهل" رضي الله عنه.

قاطعت "أليف" حديث جدتها قائلة :هل ابن "أبي جهل" من الصحابة لم أكن أعلم ذلك يا جدتي.. حدثيني عنه وكيف ابن عدو الإسلام من الصحابة ولمً لقبوا عمي "هيثم" باسمه.

قالت لها الجدة والدموع تلمع في عيناها: إن "عكرمة بن أبي جهل" كان من أشهر فرسان قريش وأشرافها، عاش في الجاهلية حياة البذخ والترف، فهو من بني مخزوم أعز وأغنى أنساب قريش ، وتميز بالحكمة والحلم والشجاعة وخفة الحركة، وقد تزوج ابنة عمه "أم حكيم المخزومية" وهي ابنة أخت "خالد بن الوليد" رضي الله عنه، وعندما ظهر الإسلام لم يسلم "عكرمة" وقد حارب ضد المسلمين في معركة بدر حمية لأبيه، ثم حارب ضدُ المسلمين في معركة أحد والخندق ليأخذ بالثأر لمقتل أبيه في بدر، وفي يوم فتح مكة عفى الرسول عليه السلام عن الجميع إلا عن أربعة رجال وكان منهم "عكرمة بن أبي جهل" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتلوهم ولو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة)، وذلك لعداوتهم الشديدة للإسلام والمسلمين، وعندما أسلمت زوجة عكرمة “أم حكيم” وذاقت حلاوة الإيمان تمنت لو أن زوجها "عكرمة" أقرب الناس إليها يشعر بهذا النقاء، فذهبت وطلبت من رسول الله بأن يؤمنه، فقبل رسول الله وأمنه، ثم عاد "عكرمة" مع زوجته ودخل بالإسلام.

قد فرح الرسول لإسلامه وسماه بالراكب المهاجر، وأمر الصحابة بعدم سب أبيه "أبي جهل" أمامه مراعاة لمشاعر "عكرمة"، وقد شهد "عكرمة" مع الرسول معركة حنين والطائف كما شهد حجة الوداع.

شارك عكرمة بعد وفاة الرسول “صلى الله عليه وسلم” بحروب الردة، ثم جاءت معركة اليرموك الكبيرة، وتعد معركة اليرموك أقوى معركة من المعارك التي خاضتها الجيوش الإسلامية، وكانت المعركة تحت قيادة "خالد بن الوليد" رضي الله عنه وقد بلغ عدد جيش المسلمين فيها ثلاثين ألف مقاتل و يزيدون قليلاً، أما جيش الروم قد بلغ المئتين وأربعين ألفا.

وعندما اشتدت المعركة بشكل كبير جداً وضاق الحال بالمسلمين انطلق "عكرمة" بجواده كالريح، وبايع المسلمين على الموت، ونضم إليه أربعمئة، فكان هو قائد الكتيبة التي كانت بين القلب والميسرة، وقد نزل عن جواده وكسر غمد سيفه وذهب ليتطاحن مع صناديد الروم إلى أن استشهد.

وقد لُقب عمك "هيثم" باسم "عكرمة" لأنه كان شجاعاً مثابرا، ولهذا اللقب سبباً أخر أيضاً وهو أن أبيه "أسامة" زوجي كان جاسوساً للعدو وبسببه تم أسر خيرة الشباب في المدينة، وأنا قد علمت ذلك في يوم الأثنين عندما جاء ابني "هيثم" بوجه مليء بالتردد قائلاً: إن جدران المنزل أصبحت باردة ثم قال: الحياة لا تحكمها المشاعر فقط فلها قوانين وأحكام تقيدنا، لهذا يا أمي أريدك أن تتحملي هذا الخبر الأسود .. إن أبي فعل أمراً لن يحمد عقباه، قد خانك وخان الأرض والوطن، ثم أخبرني أن الثوار قتلوه متلبسا.

في هذه اللحظة فقدت الوعي، حيثُ كان هذا الخبر بالنسبة لي مميتاً، فقد عشت مع "أسامة" عشرون عاماً لم ألاحظ عليه ملامح الخيانة ولا للحظة واحدة بل كان كريما جداً معي، جعلني أكمل دراستي إلى أن أخذت شهادة الدكتوراه في التاريخ ، كما كان هادئاً جداً، نعم كنت أشعر أن هناك سر ما في داخله، فقد كان إنسان غامض ولكن لم يخطر على بالي ولا للحظة واحدة أن يكون خائناً، لو خانني مع امرأة أخرى كان أهون على قلبي بمئة مرة من خيانة وطنه.

ثم بعد هذه الحادثة حدث صدامات مع الثوار والعدو أدت إلى استشهاد "هيثم" والعديد من الثوار، ابني حبيبي ذهب لملاقاة ربه، ثم تم تهجيرنا إلى الأردن ثم إلى سوريا ً إلا أن وصل بنا الحال إلى "أنقرة" وتزوج أبيك بأمك "تولاي"، نعم أصبحنا لاجئين بعد أن كان لنا بيتاً كبيراً، وأصبحت خريطة وطني تتقلص شيئاً فشيئا.

مسحت "أليف" دموعها ثم قالت لجدتها أعدك يا جدتي سأبحث عن عمتي "فوزية" إلى أن أجدها، سيمد الله في عمرك وستريها مجدداً، قالت لها الجدة: بحثنا عنها كثيراً ولكن لم نجد لها أثرا، وكأنها رحلت إلى بحر متراكم الأمواج.

"أليف": ولكن نحن الآن في القرن الحادي والعشرين حيث أن التكنولوجيا جعلت من العالم قرية صغيرة، لهذا سأفني وقتي وجهدي في البحث عن عمتي إلى أن أجدها، ثم وضعت رأسها على حضن جدتها لتسحب منها بعض الحزن وخلال لحظات قليلة شعرت ببرودة حضن جدتها فنظرت إليها إذ هي مفارقة الحياة بصمت محترقة بنار الشوق والهجرة.

بقلم سهام السايح


  • 10

   نشر في 15 ديسمبر 2019  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

منذ 4 سنة
اكثر من ر ا ئع
3
سهام السايح
شكرا جزيلا
Dallash
ابدعت كالعادة اختي سهام ..ولا غرابة
دام قلمك النابض
سهام السايح
شكرا لك
Aalia منذ 4 سنة
مفتاح العودة...قريباً ان شاء الله.

قصة مؤثرة ومعبره جدا ..ابدعت الكاتبة بتصوير حالة من الحالات الكثيره بالواقع حتى لو لم تكن حقيقية القصة الا ان بالواقع مشابها لها كثيراً....
2
سهام السايح
شكرا جزيلا
اللهم ان كان الوصول إليها فيه مصلحة ومنفعة للام ف اظهرها لهم وإن كان معرفة ما هي فيه يسوء العائلة فانت صاحب الستر.
3
Beddiar khelifa منذ 4 سنة
قصة مؤثرة.يلفها الكثير من الحزن.اريد ان اسالك . هل القصة واقعية؟و هل أنت طرف منها؟
4
سهام السايح
قصة عكرمة بن أبي جهل حقيقية 100% أما قصة أسامة وهيثم هي قصة من وحي الخيال لا تمد للواقع بصلة
محمود بشارة
اشك انها من وحي الخيال ولكن نقل قولك فانت صاحبة القول .
سهام السايح
لما تشك يا محمود؟
Beddiar khelifa
جميلة .بالتوفيق أخت سهام
محمود بشارة
التفاصيل الحرفية تكاذ تكون تروي عن حياة حقيقية .
Dallash
ما ترويه اختنا سهام هو حال كل مهجر عن وطنه ..وبدايتها هي قصة كل فلسطيني من ٧٠ سنة مرت وأكثر ..قصة تحكي حال الكثيرين ..لطالما اتت اختنا سهام على الطرح ..ونحن - الحمدلله-لا نزال نحفظ انا لله وانا اليه راجعون
سهام السايح
نعم صدقت كان الله في عونهم

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا