أسير ببطء بينما الجميع يهرولون. أنظر ورائي فلا أرى شيئًا يطاردهم، أنظر أمامي فلا أرى شيئًا يحثهم على الركض، وعلى جانبي الطريق كثير من المعاني التي لا أتمكن من استجماعها رغم تأملي وتمهلي. هل يفهم هؤلاء الناس كل شيء، هل يرون هدفًا أكيدًا يستحق اللهث وراءه. أم أنهم يسابقون بعضهم البعض إلى المجهول؟
ربما الجمع يجرفهم فيقولون: "حسنٌ، الجميع يركضون؛ يجب أن أركض أنا أيضًا!"
للجمع سحر من الصعب مقاومته. وأنت لا تدري إن كانوا سيصلون إلى هدف ما، ألا يجب عليك أن تسابقهم نحوه إذًا؟ لكنهم لا يعرفون، أسألهم جميعًا فلا يجيبون.
فلان يركض مثل فلان، وفلان يتبع فلان، ثم لا أصل إلى الشخص الذي يعرف الهدف من كل ذلك، وعندما لا يجدون جوابََا يقولون "إنها سُنة الحياة"
أية سُنَّة؟ أن نركض بلا وعي نحو هدف لا نعرفه؟ أُتَّهم بالغباء
هل أسير ببطء فأعايش بعمقٍ تجارب قليلةً، أم أهرول فأطَّلع على أكبر عدد من العناوين والشعارات دون فهم جيد لها؟ الاختيار صعب، لكن ما توصلت إليه أن الحياة لا تحترم المتمهلين، والمتمهلون بدورهم لا يحترمون الحياة.
هل الدنيا سباق؟
لا يمكننا أن نعيش بمعزل عن بعضنا البعض، بالطبع تربطنا علاقات وأواصر، لكن أيعقل أن يكون الرابط مضمارَ سباق؟ هل نحن خصوم على الدوام؟ لماذا لا يتفهم كل منا خصوصيته؟
أمور الدنيا كلها نسبية وخاضعة لميولنا وخصوصيتنا، من الخاطئ أن نجعلها مادة للتنافس فيما بيننا؛ فالتنافس في أمور الدنيا التي لا هدف حقيقي من ورائها غير إرضاء غرور الذات أو الفوز بالأفضلية والأسبقية الدنيوية، ينتج في النهاية أرواحًا منهكة ونفوسًا معتلة، لا تفتأ أن تُضيع دينها ودنياها.
وفي ذلك أذكر قول الله تعالى: "وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ" أي في نعيم الآخرة، وهو ما يستحق أن يسعى الإنسان إليه مسابقًا غيره في فعل الخير وتزكية النفس.
يقول الحسن البصري: "إن الدنيا مطية، إن ركبتها حملتك، وإن حملتها أثقلتك"
ومسابقة الناس بعضهم بعضًا في أمور الدنيا ركض مستمر بلا هدف وبلا إشباع، كلما بلغ أحدهم مكانًا أردت أن تبلغه، كلما تسلق أحدهم جبلاً سارعت نفسك لتسلقه. حينها لا تزيد الدنيا إلا ثقلاً.
لكن هناك نوع آخر من السباق هو ما أفضله، وهو أن يكون المرء وحيدًا في مضمار ذاته، بمعزل عن توجهات الآخرين وغاياتهم، هدفه تحسين ذاته والنهوض بإنسانيته، لا يشتته ركض الراكضين ولا تراجع المتراجعين. محترِمًا خيارات الآخرين يمضي في خياره الخاص. هو ذا ما أسميه سباقًا فاعلاً؛ لا تهم فيه السرعة أو البطء، لا يهم فيه الرجوع أو التقدم ما دام الأمر سيجعلك إنسانًا أفضل ويحافظ على سوائك النفسي.
هذا المفهوم عن السباق برأيي جدير بالإيمان، لكن استحضاره دائمًا، والتمسك به طوال الوقت في غاية الصعوبة، وسط كل هذا التزاحم والتدافع يكون عليك أحيانًا أن تنسحب قليلاً مذكرًا نفسك بقواعدك الخاصة.
-
مريم ناصفألاحق تناقضات النفس الإنسانية