ليبيا مثل نظيراتها من دول الربيع العربي فتح فيها التغيير السياسي جملة من الصراعات القديمة بطريقة فوضوية بين قوى سياسية وقبائل ونخب مختلفة المشارب والتوجهات أبرز هذه الصراعات هو الصراع بين العلمانيين والإسلاميين وبين بعض القيادات والقبائل المؤيدة للقذافي بعد ثورة 17 فبراير وأخرى مناهضة له إضافة إلى صراع آني على مواقع النفوذ بين المليشيات المسلحة ، وإذا كانت هذه الصراعات قد تمت تسويتها جزئيا في دول مجاورة من خلال تفاعلات اختلفت من حال التسوية السياسية في تونس التي تنازل بموجبها الإسلاميون عن جزء هام من مكاسبهم لتستمر العملية السياسية في شكلها السلمي دون الإنجراف إلى سيناريوهات مأساوية ، وبتدخل الجيش في الحالة المصرية ليرجح كفة المعارضين لحكم الاخوان وان كان هذا الاجراء لم يمنع من ان يستمر الاحتقان الى اليوم بسبب عدم رضى الاطراف المتضررة عن النتيجة الحاصلة عن هذا التدخل ، فان النموذج الليبي يبدو الابعد عن هذين الاحتمالين فلا وجود لمؤشرات حل سياسي توافقي بين القوى السياسية ولا وجود لمؤسسات سيادية قوية ومؤثرة قادرة على حسم الصراعات السياسية لأي طرف.
وتملك الحالة الليبية عددا من العوامل تجعلها اشد تعقيدا وتأزما : هي غياب تقاليد العمل السياسي في شكله المؤسساتي بسبب حظر الاحزاب في عهد القذافي والتضييق على المعارضة اضافة الى هشاشة المؤسسات الامنية التي تضررت بشكل كبير بعد الثورة حيث استلزم ابعاد القيادات المؤيدة للقذافي مما ادي الى حالة فراغ قيادي في هذه المؤسسات اربك عملها الميداني ،وهو ما ادى الى تمسك المليشيات الثورية بالتسليح فهي لا تثق في قدرة هذه المؤسسات على تحقيق الامن ، كما ان بعض هذه المليشيات تحمل فكرا تكفيريا متطرفا وبعضها لا تتوانى في اعلان انها امتداد لجماعات ارهابية مثل القاعدة ، فضلا عن الاستقطاب العربي الاقليمي الذي كان عاملا مغذيا للصراع الليبي وزاد من تعقيده.
مع ازمة الاقتتال الاخيرة بين المليشيات المسلحة الليبية في طرابلس وبنغازي ونظرا لاثارها الواسعة التي ادت الى نزوح 12 الف عائلة ليبية طالب البرلمان الليبي الذي انعقد في طبرق بالتدخل الدولي من اجل حماية المدنين وحل المليشيات المسلحة ، وهو ما ادى الى اثارة بلبلة واسعة وهناك من اعتبره التفاف على ثورة 17 فبراير وقد ظهرت معارضة لهذا التصريح من داخل البرلمان نفسه ، هذا التصريح لم يكن هو الأول فقد طالب اللواء حفتر من قبل بتدخل أجنبي من أجل التعامل مع الجماعات الإسلامية المتطرفة وعرض هذا الأمر على دول الجوار وفي ذلك الوقت أعلنت الجزائر نيتها على عدم التدخل الذي يمكن تفسيره في إطار خوفها من أن ينتقل الصراع إلى أراضيها وإدراكها أن التدخل لن يكون مجديا فعلى الأرجح سيؤدي إلى تعميق الإنقسامات الداخلية في ليبيا وتأجيج الصراع والإنجراف نحو خيار العنف دون تحقيق نتيجة مباشرة إضافة إلى أن أحد ثوابت السياسة الخارجية الجزائرية هي عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول في المقابل فضلت الجزائر تدابير من أجل مواجهة التحدي الأمني الذي يفرضه الوضع الليبي من خلال اتخاذ احتياطات على الحدود خشية أن يتدفق إليها السلاح كما زادت من التعاون الأمني مع تونس ، نفس الأمر بالنسبة للموقف الرسمي المصري حيث تم الإعلان عن نية عدم التدخل بأي شكل من الأشكال في ليبيا ، رغم توجيه بعض الأطراف اتهامات لمصر بأنها شاركت في غارات على المليشيات المقتتلة في مطار طرابلس .
قضية نزع سلاح المليشيات الليبية هي القضية الأولى حاليا التي تحظى بالنقاش والأهمية في ليبيا وإن كان لا يوجد خلاف حول الفكرة نفسها لكن الخلاف حول الكيفية فهناك تيارين أساسين أحدهما يطالب بتدخل خارجي لنزع سلاح المليشيات وفرض النظام يمثل هذا التيار القوى العلمانية وآخر يطالب ببناء المؤسسات الأمنية أولا ممثلا في القوى الإسلامية وهذا الخلاف هو الذي أدى إلى نشوء أزمة الشرعية بعد إعلان المؤتمر الوطني العام المنتهي ولايته اختيار رئيس وزراء جديد ، كما أن قضية سلاح المليشيات كانت على رأس الأمور التي تباحثها وزراء خارجية الدول الأربع في اجتماع دول جوار ليبيا وقد دعت هذه الأخيرة لبدء حوار وطني شامل ونزع سلاح المليشيات من خلال اتفاق سياسي بين كل الفرقاء .
يبدو الخيار الذي تنادي به القوى الإسلامية المؤطرة في المؤتمر الوطني العام أكثر منطقية للسبب التالي أن التدخل الأجنبي لنزع سلاح المليشيات سيؤدي إلى أمور عكسية في ظل غياب مؤسسات أمنية قوية و وفرة السلاح ، لكن المشكلة أن المؤتمر يعتمد على شرعية ثورية انتهت صلاحيتها مقارنة بالشرعية الدستورية التي يملكها مجلس النواب المنتخب ، وإن كان هذا الأخير تسرع في الدعوة إلى تدخل خارجي وهو أمر مرفوض من القاعدة الشعبية ، لكن يبقى هو المؤسسة المنتخبة المسؤولة عن البلاد ، هنا تكمن الأزمة وتعقيدها فإن كل طرف محق ومخطئ في نفس الوقت .
ومن ثم فإن الخيار الآمن لليبيا في هذه المرحلة هو اللجوء إلى حوار سياسي يجمع الكل دون محاولة لإنتقاص من مصداقية أي طرف أو الطعن فيه للتوصل إلى حل توافقي ومن ثم يكون الجميع ملتزما بتنفيذه بما فيه الطريقة المثلى للتعامل مع مسألة سلاح المليشيات .