رؤساء في مهب الأزمات..

هيام فؤاد ضمرة..

بات الأمر المعيشي الحالي للناس مزريا لدرجة لا تطاق ولا تحتمل.. هل علينا أن نعاني الفقر المدقع بسبب هستيريا سلسلة رفع الأسعار؟ وابتكار أبواب للضريبة القسرية التي يتسابق عليها رؤساء الوزراء الأشاوس واحداً تلو الآخر، كلّ رئيس وزراء يظن نفسه عنترة زمانه، يختال بشجاعة وهو يطوح بسيفه البتار في تحدي سافر لإثارة الناس الغلابة نتيجة لرفع الأسعار تباعاً شهراً في إثر شهر، وأسبوعا في أعقاب أسبوع، باتوا رؤساء الوزارات لا يأبهون من نتائج هذا التغول على لقمة عيش المواطن وعلى شح دخله الشهري، ولست أفهم بأي حق وقف عدد من وزراء الدولة في أيام ماضية في لقاءات متكررة مع جمهور النخب المفكرة، يعترفون أمامهم أنهم فشلوا في إدارة اقتصاد البلد والتحكم بميزانيته وضبط موازنته، ويسألونهم ما يقترحون عليهم من حلول لإنقاذ اقتصاد الوطن،، لكم أن تتخيلوا وزراء أوصلوا البلد إلى الطريق المسدود وما زالوا بعد أربعين عاما يجلسون على تلها.. بل على أنقاضها، لا يزحزهم إلا الموت، ليستلم من بعدهم أبنائهم غير هيابين من انكشاف أمرهم ليعتصروا ما تبقى من هذا المواطن المغلوب على أمره حتى آخر قطرة، والوزير صاحب الصلاحيات ما هو إلا مأمور بفعل ذلك، ليجد نفسه وهو المختال بمنصبه عليه أن يلبي ما هو مطلوب منه صاغرا غير متردد لنيل الرضى.

آخر ما توصل إليه كبارنا الأشاوس المؤتمنون على هذا الوطن الصغير، المأمنون صحياً واجتماعيا واقتصاديا حتى الرحيل الأخير، والمرتفعة دخولهم الشهرية والمثمرة غزواتهم المكررة على خزينة الدولة بالهدر السافر الذي نلحظه باستمرار أن خرجوا إلينا بقرار رفع أسعار الدواء والخبز وأصناف أطعمة الفقراء، وهنا ما يتأتى منه الخطر حين رفع مظلة الأمان الاجتماعي وتعرية الفقر في المواطن حتى العدم من خلال التغول على جيب المواطن الأفقر ووصول معدلات رفع الأسعار على المواد الأساسية التي لا يمكن الاستغناء عنها لهدف تعقيد الحياة علماً أن الاضرار بالفقراء هو قتل انساني خطير، لن تنفع معها مقولة طالما تجد الصمت تجد الصبر.. فللصبر حدود.

الغريب كيف يفكر هذا الرئيس بمواطنه حين تصعيب الحياة عليه وقد كان في أصل زمانه مواطنا بسيطا مثله يعاني ما يعاني من شظف العيش ومن معاناة الحصول على الأساسيات من المتطلبات وأظن الغالبية منهم علمتهم الحكومة وصنعت منهم قادة، فما من أحد منهم ولد وفي فمه ملعقة من ذهب؟

الدواء أيها الرؤساء الأفاضل ليس سلعة اختيارية ولا استهلاكية بقصد الرفاهية، الدواء مادة انسانية ترفع الألم عن المبتلي وتخفف من معاناته على ما قدر الله لهذا الانسان الضعيف، كثيرا من المرضى الفقراء وهم غالبية الشعب يعتمدون الوصفات الشعبية في العلاج فإذا لم يتجاوب المرض يلجؤون إلى الاكتفاء بدواء واحد مما يصفه لهم الصيدلي وليس الطبيب لأنهم لا يستطيعون دفع كشفية الطبيب ولأنهم لا يملكون ثمناً للعلاج ولا يلجؤون للمختبرات لأن المختبرات صارت غول بفك مفترس غير مبال بوضع المواطن العادي، وكثيرا ما يلجأ المواطن إلى الصيدلي مباشرة ليصف له العلاج على حالته ويتمكن من مطالبتة بصرف الدواء الأرخص ليتمكن من شرائه، وغالبا ما يشتري شريطا واحدا من علبة الدواء لأن ثمن العلبة فوق مستوى قدراته المالية وهو المطالب بنفقات خيالية للأسرة بتأمين السكن والتعليم والعلاج وتوفير متطلبات الحياة وقائمة لا تنتهي من المطالب والفواتير الشهرية المرهقة.. أكثر من نصف المواطنين يعانون امراضا خطيرة كالضغط والسكري والربو وأمراض القلب والسرطان وأخرى تأتي بلا مقدمات تحتاج إلى عمليات جراحية مستعجلة وعلاج لوقت طويل.. حين الحكومة لا يهمها أمر مواطنها لا يجوز استمرارها، وحين النائب تخرسه مصالحه الخاصة عن واجبه نحو من انتخبه لينوب عنه في الحفاظ على حقوقه الانسانية يصير هو ومجلسه لا لزوم لهم، فحيث لا أمانة للدور لا مكانة للدائر.

سنغافورة بلدا مثل الأردن تماماً فقيراً بلا مقومات اقتصادية، يقاسي الفقر والجفاف لدرجة أن بكى وانهمرت دموع رئيسها توجعاً حين علم بمعاناة شعبه مع شح المياة والعطش والجوع، وأخذ عهداً على عاتقه التكفل بتوفير احتياجات شعبه، لم يفكر بمقومات باطن الأرض وما تمنحه من مواد غنية بل فكر في استثمار العقول الانسانية المبتكرة والأيدي المنتجة والاهتمام بالانسان كإنسان وليس كجيب ممتلئ بالمال كان همه أن الاستثمار بعقل الانسان ورفع سوية مواطنته ومستوى معيشته ونوعية علومه فقفزت هذه الدولة إلى مصاف حضاري متقدم في زمن قياسي.

فسويسرا عبارة عن شبه جزيره شتاءها قارص وثلجها يغطيها نصف العام ومع ذلك وجدت قياداتها سبلها لجعلها في مصاف الدول المتقدمة حضاريا فقط من خلال استثمارها العقول البشرية واهتمامها بصنع انسان حضاري واعي، اهتمت بالعقول وصنع مواطنة وانتماء حقيقي وليس باستخدام الشعارات المفرغة من مضمونها، فإن اكتشاف المواطن عدم مصداقية الحكومة يحوله إلى مستثمر وظيفة وموقع ليس إلا فيتغول الفساد بأبشع صوره... سويسرا صنعت أغلى ساعات العالم وأفضل شوكلاتة وأطيب الأجبان وجميع المواد الأساسية لهذه الصناعات مستوردة.

واليابان وقفت منتصبة بقوة علميا واقتصاديا وحضارياً وانسانيا حين نهضت وحدها من كبوة أنزلتها تحت الأرض وخرجت من الحرب العالمية الثانية خالية الوفاض في وطن حرثته قنبلتين نوويتين تركتا خلفهما دمارا رهيبا، واليابان جزيرة محيطية تخلو من كل مقومات الاقتصاد تهاجمها الطبيعة بأعظم الكوارث والنكبات وأكثرها تدميرا زلازل وبراكين وأمواج تسونامية، ومع ذلك نهضت بحضارة حديثة حين أولت الثروة البشرية اهتمامها واستغلت ابداعات عقولهم واستثمرتها بشكل ايجابي بانشاء أعظم حضارة وأكثرها تقدماً .

لأنه تبين أن الشعوب المتخلفة حقيقة تلك التي تعيش متكئة على ما تمنحه باطن أرضها من خيرات فإن اغتنت فغناها أصبح مرحليا غير مستمر ومستوى تحضرها سطحي يتمحور حول العقار وأماكن اللهو والسياحة معتمدة على الأيدي العاملة المستوردة من الخارج فظل مواطنها قابعاً في الحدود الضيقة من العقل وابداعاته.

النهضة الحديثة في الدول التي نجحت حضارياً قامت على استنهاض العقول وعبقرية الذهون والاهتمام بالانسان أولا وأخيرا لأنه مصدر الاختراع والابتكار والتخطيط السليم والانتاج القويم والعزم الأكيد.. فكم من اختراع أو ابتكار أوصل صاحبها إلى عنان السماء وإلى ميزانيات هائلة من المليارات وتشغيل أعداد مهولة من الأيدي العاملة.

اعتمدت نظرية رأس المال الفكري كمصطلح معرفي منذ زمن قريب لكنه عرف عملياً منذ زمن بعيد، فأوروبا خرجت من عهد ظلامها الدامس وجهلها الخرب حين تحولت فكرياً وصاحبها العمل على الواقع بالاهتمام بالإنسان وعقل الانسان، فالاستثمار بالعقول وتهيأة الذهون يمكن استخدامها لانتاج الثروة ومضاعفة الناتج واكتساب ميزة تنافسية ايجابية وتعزيز قيمة الانتاج والاتقان والتميز، كما أن النفقات التي تتكبدها الحكومات في التعليم والتدريب ورفع قيم التعامل وقيم العمل للحفاظ على صلاحية الأصول الفكرية تعادل تكاليف استهلاك الأصول المادية، وعلى هذا اختيار الصحيح هو تنمية بشرية واقتصادية مستدامة، من الجنون تبديدها بالاهمال والتجاهل.