مقامات التجلي بالشعر - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

مقامات التجلي بالشعر

هيام فؤاد ضمرة

  نشر في 12 ديسمبر 2019  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

مقامات التجلي في الشعر

هيام فؤاد ضمرة

الشعر الذي حاز على لقب ديوان العرب ما زال يشكل السرّ الجمالي الرفيع المتخلل عبر موجات الأثير الإبداعي الذي يقاس به المرء الشاعر فيكرم أو يهان، والشاعر هو ذلك الذي تمازج مزاجه بإحساسة وأطلق عنان تجواله سابحاً في أيونات الأثير الجمالي إلى أقصى الحدود، فالخيال الشعري عند الشاعر هو من يفتح آفاق الوجود ليهيم على وجهه في ملكوت التصور مستخدماً كامل أناقة أبجديتة المتخلقة من رحم المعاناة

فالريشة في يد الشاعر ليست إلا صنبور فاخر ينفتح ليتدفق صوراً شعرية باذخة، تتحول الى بورتريه مؤطر بالدرر يرنو إلية بحب وشغف ويتنقل معه هياما وغراماً، لتندس في كلماته موسيقى كأنما هي لحن صوفي يناجي بها رب البهاء بكل السخاء التعبيري المجدي في بناء القصيدة، حريصاً على شغف التماسك رغم اندياح المكاشفة في جسد القصيدة التي جعلت من السر الخفي أرضاً مشاع، تكشف عما في الخبايا من أحاييل قد فشل في مواراتها وراء لغز الكتمان.

إن الشاعر إذا ما انخرط في تجلياته مع ذاته، تشبث به شيطانه الشعري ليعيش مع ذلك الصوت المتردد داخله بإصغاء عميق، حتى يبلغ الصوت الشعري فيه هديراً يُغيبه عن موضعه وشعوره، فيعيش الحالة المتسامية إلى مقامها الأعلى والأرفع منزلة، وتنداح صوره بكلمات متناسقة متعالية تتمازج بها الألوان بخاصية الذوق الرفيع.

والشاعر حين تتوالد عباراته في إطار الصورة، فإن ذاته تتفلت منه، فيتلذذ إفشاء المتواري خلف جسد القصيدة، وهو يرتشف من حوض خمر لا ينتهي معينه، ليتسرب إلى أعمق أعماقة خِدراً، يُصيب أطرافه كما يصيب عصب إحساسه.

هكذا هو الشاعر ليس إنْ هو إلا ساحر، يستخدم أنامله في لعبة الإيحاء بخفة متناهية، ليحول الشعر بين أناملة إلى قوة تأثيرية تلعب بمكونات العقل، فتزخرف غير المزخرف، وتأطر اللوحات بأطر الجمال بسخاء الدهشة، حتى ينتزع بقوة تعبيراته الآه من أعمق أعماقك، بقوة تفجر حالة الدهشة على وتر الإنفعال.

والقصيدة حتى تكون بقوة هذا الأثر، يتطلب ذلك امتلاك الشاعر حساً رهيفا يعزز اعتماده على ما يمتلكه من مخزون لغوي، قادر على شرح رؤية الشاعر بالمعنى المطلوب، والصورة المختلقة من أعماق كيانه المرتقي، ليحقق تجليات ذاته الداخلية التي تتغذى من مشيمة الشعور وبلاغة القول، لتنمو نمواً تخليقياً سليماً من أي تشويه، لتفيض مشاعره متشحة بألوان طيفها التعبيري، لتبلغ معترك اعتناقه لرؤية ذاته في أقصى ذروة شعوره الندي، بأنه يعيش اللحظة خارج الزمن، بعيداً عن المؤثرات الأخرى، حيث لا يعود هناك وجود، وليس في ذهنه إلا ما تجاوز في ذاته خارج منطق شعوره، في حدود خياله الساعي إلى التأثير على المراكز العصبية عند المتلقي.

ولأنّ الشاعر قادر على تحريك أصابعة على جسد القصيدة، ليتحسس انسيابية تفاصيلها واستواء مقاطعها، فبإمكانه أن يعيش شاعريته على سجيتها، ولا يثقل قصيدته بالإطالة أو بالتغريب، من خلال صور تقليدية مستهلكة لا لزوم لها، ولن تخدم القصيدة إنْ تغيبت وراء أكمة الحذف، فهو يحقق رسالته من خلال التنقل المريح، والارتقاء من درجة إلى أخرى صعوداً حتى بلوغ النتيجة المرجوة، التي يكتمل عندها معنى القصيدة في حدود أقل الصور وأقل العبارت، مع التقنين بتغريب القصيدة وعدم قتل ابداعها بالغموض.

إن التجليات بالشعر هي ملامح مكتملة بالقضايا الكونية والإنسان على حد سواء عند الشاعر الملهم، لأن الحب الإنساني بين الذكر والأنثى، والحب الإلهي بين العبد وخالقه هي محطة انطلاق في لغة التجلي ولغة الأحوال والمقامات لاكتشاف الذات وقدرتها على تكوين الألفاظ، وتسطير العبارات على مستوى رفيع لائق بالحالة، فيمارس الشاعر انزياحاته اللغوية التعبيرية المؤدية إلى التعدد الدلالي للقصيدة بقصد السباحة في إثير الشعور الأسمى.

فالتجليات الشعرية تربي الذائقة الأدبية وترتقي بنفوس المتذوقين إلى مراتب السالكين والخاشعين والمتصوفة قلوبهم بالشعر ومحاوره بفيض غني من مفردات رقيقة شاعرية تعزف على أوتار الشعور في مضمون وافر من الرومانسية والقدسية تعبر عن الله والوطن والأم والحبيبة والحبيب، حيث يرى فيهم ملاذه الروحي وسكينة نفسه وتذاوب روحه وسمو أحواله.

فالشعر المُحمّل بفيض الأحاسيس هو اجتراح متقدم لأفق العقل، ومساحات الخيال فيه تتجاوز كافة المعايير الجمالية إلى حدود الإبهار والإدهاش، كونها توقظ بالشاعر القدرة على التأويلية بالتفكير الإنساني في مواجهة خفايا الكون وخفايا النفس البشرية المعقدة، واجتراح لرؤية أعمق من العادي قد تتجاوز المنطق وحدود العقل في كثير من الأحيان وتتسامى عن الحس المادي، فترى الشاعر مُحلقاً إلى ما فوق الشعور الحسي وهو مترع بحالة لطيفة هينة لينة تستجيب إلى تدفق أحاسيسه، فالشاعر في لحظات تدفقه الابداعي يخرج عن حالة الإحساس المادي ليرتقي إلى الشفافية الرهيفة المفعمة بالخيال المحلق، لتصبح روحه معلقة بما وراء المحسوس والمطلق، فتشع رؤياه إلى ما وراء الطبيعة ويراها أوسع من حقيقتها وأشد جمالاً وتخليقاً.


  • 3

  • hiyam damra
    عضو هيئة إدارية في عدد من المنظمات المحلية والدولية
   نشر في 12 ديسمبر 2019  وآخر تعديل بتاريخ 08 ديسمبر 2022 .

التعليقات

Dallash منذ 4 سنة
القصيدة لا تكتب إلا حين تنتهك الهدنة بين الشاعر واعماقه ومشاعره!! ويكون هناك سلام في وطن الاعماق والمشاعر!!
3

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا