وتفرقت .. حبات اللؤلؤ - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

وتفرقت .. حبات اللؤلؤ

  نشر في 25 شتنبر 2021 .

استيقظ البيت على صراخها ، وربما القرية بأكملها ، وانتفض الزوج من فراشه ، وفزع الأبناء من نومهم وهرعوا إليها ، والتف الجميع حولها في فزعٍ وخوف وحيرة ، يحاول كلاً منهم أن يهدئ من روعها ويسكن ثورتها ويربت على كتفها ، وهى ترتعد وتتمتم : " لن أعيش بعيدًا عن بيت أبى ، لن أسمح لأحد أن يقتلعنى من جذورى " .

تلك الزوجة التي نامت بالأمس باكية بعد حوارٍ مرير بينها وبين زوجها لم ينتهِ إلا بالغضب والامتعاض والسخط على أحوال وأحداث دامت لأعوام بهدوء وسلام ، ورغم أن ذلك الحوار لم يُدار بينهما للمرة الأولى ، ولم ينتهِ هذه المرة إلا نفس النهايات السابقة إلا أنه أوجعها ، وأفقدها صوابها ، وأغرقها في غيابة الحمق والاستبداد والإصرار على ما في رأسها رغم أنف الجميع ودون الوضع في الإعتبار أمورًا ستنقلب رأسًا على عقب إذا ما استسلمت لهذه العاصفة ، وانجرفت تجاهها ، وانساقت لها ... ربما لأن الحوار هذه المرة أوحى لها بأنه لا محالة من الاستسلام ، وقتل بداخلها الأمل ، وذهب بأمانيها إلى حيث لا رجعة ، فهى لم تلتفت إلا بالعودة إلى بيت العائلة ، والسكن جوار أسرتها وأقاربها ، والاستئناس بهم ، ولم تعى أن أسرتها الجديدة أحقُ وأجدر بأنسها ومودتها وإهتمامها ، لم تنتبه إلى أن زوجها وأبنائها أحقُ بإنسياقها خلفهم أينما كانوا ، والتأقلم على ما يحبون وإن كان بغيضًا ..

وانحسم الأمر ، واضطر الزوج للرضوخ لمطالبها ؛ تفاديًا لنتائج لا تُحمد عقباها .. وقرر الرحيل بها من العش الصغير الدافئ إلى حيث تهوى ، بعد أن استنفذ كل الوسائل لإقناعها ولم تبقَ في يده حيلة ... وخرج وقلبه ينفطر من الحزن على البيت الذى كان يشتاق لرائحته إذا تأخر يومًا في العمل ، وكان يعود إليه مسرعًا وكأنه يريد أن يقبل جدرانه أو يقبض ترابه بيده ويستنشق عبيره ..

وذهبوا للإقامة بالبيت الجديد بجوار بيت عائلة الزوجة ، وما إن وطأت أقدامهم أرضه إلا ودبت المشاكل التي لم تكن في الحسبان ، وكأنهم ودعوا راحة بالهم ودفئهم على أعتاب البيت القديم .

فالزوجة أصبحت تقضى معظم أوقاتها في بيت العائلة بصحبة إخوانها ، تأنس بهم وتلهو معهم , وتعود لبيتها في وقت متأخرٍ من الليل لتجد زوجها قد نام مبكرًا من فرط التعب مع الأبناء وإحتياجاتهم ، واستنزاف طاقته في المسافة الكبيرة بين مقر عمله والبيت الجديد ، كما زادت المسافة أيضًا في الوصل بينهما ، وانطفأ كل ما كان مشتعل ، فبعد أن كان هو أنسها الوحيد ومحور إهتمامها ، تتسامر معه وتتودد إليه وتسعى جاهدة لإرضائه ، أصبح على هامش قائمة الأولويات ، فقد تمر أيام لا يراها إلا بضع دقائق . ولم يثبت الحال على هذا بل ازداد سوءًا ، فقد امتد الإهمال للأبناء ، وانخفض مستواهم الدراسى بشكلٍ ملحوظ ، وتوقفوا عن أداء كثير من الأنشطة التي كانوا يمارسونها من قبل ، وتحمل الزوج فوق عاتقه ، وفاض به الكيل ، فذهب إلى حكمًا من أهلها يشكوها إليه .. فلقى منهم ما لا يرضى من القول ، واتهموه بما ليس فيه ، وخيّروه بين البقاء على هذا الوضع أو الانفصال ، وعلى الفور قرر الانفصال ، وذهب كلٌ إلى حاله ، ومرت الأيام وهو يتنفس الصعداء ، عابس الوجه ، حزين القلب ، مشتت الفكر ، يعيش حياة بائسة يُرثى لها ؛ فهو يذهب إلى عمله صباحًا ثم يعود ليبدأ في أعمال البيت ، وإطعام أبنائه ومصالحهم ورعايتهم ومساعدتهم على أداء واجباتهم الدراسية قدر استطاعته ، ولكنه لم يتحمل السير على هذه الأشواك طويلًا ، فقد تحول إلى آله تعمل دون هوادة ، فقرر الزواج وانحلت عقدته ، ورزقه الله بالزوجة البارة التي كان يتمنّاها ، جذبه لها اللين والرفق ، واحترامها له ، وحنوها على أبنائه ، واحتضانها لهم ، وكانت زوجته الأولى قد تزوجت هي الأخرى بالقرب من بيت العائلة ، ويشاء مقدر الأقدار أن ينتقل عمل زوجها إلى محافظة نائية ، ويجبرها على الذهاب معه ، ولم تجد من يتصدى له ، فلم يستطع الأهل التدخل بالرفض وتطليقها للمرة الثانية ، فاستجابت دون أي مقاومة أو أدنى نقاش ، وطلبت من زوجها الأول أن يعطيها الابن الأصغر فأخذته وسافرت به مع زوجها إلى حيث أقام ، أما الابن الأوسط فأصر على العيش في بيت جده وأخواله ، وبقى الكبير مع أبيه ..

وتفرقت حبات اللؤلؤ ، وتناثرت في كلِ مكان ، تاركة عقد اللؤلؤ الذى احتواها وضمّها قبل ذلك ، وزينّها وتزين بها ، تاركة البقعة الطيبة التي كانت تضيئها تلك الحبات .

فلم تكن تعلم تلك الزوجة أن الوحدة التي كانت تصفها ب( القاتلة )هي الحياة بعينها ، وأن الشمعة الصغيرة التي استهانت بضوئها كانت هي الشمس والقمر والنجوم ، لم تكن تعلم أن حبات اللؤلؤ كانت تستحق أن تغوص في الأعماق لأجلها مهما كانت الأعماق مظلمة ، ومخيفة ، وموحشة ، لم تكن تعلم أن كمال الأمور وتمامها لم يكن ليوجد في الدنيا ، بل يأتي كل شيء فيها ناقصًا يكمل بالرضا والتغاضى والتغافل ، لم تكن تعلم أن القرارات الحمقاء التي تأتى دون تعقل أو تريث لابد أن يعقبها ندم كبير ، وخسائر جمة لكل الأطراف ، ومهما حاولنا العدول والتراجع فلا شيء يعود كسابقه ، فقد تعود المياه لمجاريها ولكنها لم تعد صالحة للشرب .

وكذلك حبات اللؤلؤ إذا انسكبت من عقدها فلن تعود .

                                                                                           بقلم : فادية صقر


  • 2

   نشر في 25 شتنبر 2021 .

التعليقات

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا