استيقظ البيت على صراخها ، وربما القرية بأكملها ، وانتفض الزوج من فراشه ، وفزع الأبناء من نومهم وهرعوا إليها ، والتف الجميع حولها في فزعٍ وخوف وحيرة ، يحاول كلاً منهم أن يهدئ من روعها ويسكن ثورتها ويربت على كتفها ، وهى ترتعد وتتمتم : " لن أعيش بعيدًا عن بيت أبى ، لن أسمح لأحد أن يقتلعنى من جذورى " .
تلك الزوجة التي نامت بالأمس باكية بعد حوارٍ مرير بينها وبين زوجها لم ينتهِ إلا بالغضب والامتعاض والسخط على أحوال وأحداث دامت لأعوام بهدوء وسلام ، ورغم أن ذلك الحوار لم يُدار بينهما للمرة الأولى ، ولم ينتهِ هذه المرة إلا نفس النهايات السابقة إلا أنه أوجعها ، وأفقدها صوابها ، وأغرقها في غيابة الحمق والاستبداد والإصرار على ما في رأسها رغم أنف الجميع ودون الوضع في الإعتبار أمورًا ستنقلب رأسًا على عقب إذا ما استسلمت لهذه العاصفة ، وانجرفت تجاهها ، وانساقت لها ... ربما لأن الحوار هذه المرة أوحى لها بأنه لا محالة من الاستسلام ، وقتل بداخلها الأمل ، وذهب بأمانيها إلى حيث لا رجعة ، فهى لم تلتفت إلا بالعودة إلى بيت العائلة ، والسكن جوار أسرتها وأقاربها ، والاستئناس بهم ، ولم تعى أن أسرتها الجديدة أحقُ وأجدر بأنسها ومودتها وإهتمامها ، لم تنتبه إلى أن زوجها وأبنائها أحقُ بإنسياقها خلفهم أينما كانوا ، والتأقلم على ما يحبون وإن كان بغيضًا ..
وانحسم الأمر ، واضطر الزوج للرضوخ لمطالبها ؛ تفاديًا لنتائج لا تُحمد عقباها .. وقرر الرحيل بها من العش الصغير الدافئ إلى حيث تهوى ، بعد أن استنفذ كل الوسائل لإقناعها ولم تبقَ في يده حيلة ... وخرج وقلبه ينفطر من الحزن على البيت الذى كان يشتاق لرائحته إذا تأخر يومًا في العمل ، وكان يعود إليه مسرعًا وكأنه يريد أن يقبل جدرانه أو يقبض ترابه بيده ويستنشق عبيره ..
وذهبوا للإقامة بالبيت الجديد بجوار بيت عائلة الزوجة ، وما إن وطأت أقدامهم أرضه إلا ودبت المشاكل التي لم تكن في الحسبان ، وكأنهم ودعوا راحة بالهم ودفئهم على أعتاب البيت القديم .
فالزوجة أصبحت تقضى معظم أوقاتها في بيت العائلة بصحبة إخوانها ، تأنس بهم وتلهو معهم , وتعود لبيتها في وقت متأخرٍ من الليل لتجد زوجها قد نام مبكرًا من فرط التعب مع الأبناء وإحتياجاتهم ، واستنزاف طاقته في المسافة الكبيرة بين مقر عمله والبيت الجديد ، كما زادت المسافة أيضًا في الوصل بينهما ، وانطفأ كل ما كان مشتعل ، فبعد أن كان هو أنسها الوحيد ومحور إهتمامها ، تتسامر معه وتتودد إليه وتسعى جاهدة لإرضائه ، أصبح على هامش قائمة الأولويات ، فقد تمر أيام لا يراها إلا بضع دقائق . ولم يثبت الحال على هذا بل ازداد سوءًا ، فقد امتد الإهمال للأبناء ، وانخفض مستواهم الدراسى بشكلٍ ملحوظ ، وتوقفوا عن أداء كثير من الأنشطة التي كانوا يمارسونها من قبل ، وتحمل الزوج فوق عاتقه ، وفاض به الكيل ، فذهب إلى حكمًا من أهلها يشكوها إليه .. فلقى منهم ما لا يرضى من القول ، واتهموه بما ليس فيه ، وخيّروه بين البقاء على هذا الوضع أو الانفصال ، وعلى الفور قرر الانفصال ، وذهب كلٌ إلى حاله ، ومرت الأيام وهو يتنفس الصعداء ، عابس الوجه ، حزين القلب ، مشتت الفكر ، يعيش حياة بائسة يُرثى لها ؛ فهو يذهب إلى عمله صباحًا ثم يعود ليبدأ في أعمال البيت ، وإطعام أبنائه ومصالحهم ورعايتهم ومساعدتهم على أداء واجباتهم الدراسية قدر استطاعته ، ولكنه لم يتحمل السير على هذه الأشواك طويلًا ، فقد تحول إلى آله تعمل دون هوادة ، فقرر الزواج وانحلت عقدته ، ورزقه الله بالزوجة البارة التي كان يتمنّاها ، جذبه لها اللين والرفق ، واحترامها له ، وحنوها على أبنائه ، واحتضانها لهم ، وكانت زوجته الأولى قد تزوجت هي الأخرى بالقرب من بيت العائلة ، ويشاء مقدر الأقدار أن ينتقل عمل زوجها إلى محافظة نائية ، ويجبرها على الذهاب معه ، ولم تجد من يتصدى له ، فلم يستطع الأهل التدخل بالرفض وتطليقها للمرة الثانية ، فاستجابت دون أي مقاومة أو أدنى نقاش ، وطلبت من زوجها الأول أن يعطيها الابن الأصغر فأخذته وسافرت به مع زوجها إلى حيث أقام ، أما الابن الأوسط فأصر على العيش في بيت جده وأخواله ، وبقى الكبير مع أبيه ..
وتفرقت حبات اللؤلؤ ، وتناثرت في كلِ مكان ، تاركة عقد اللؤلؤ الذى احتواها وضمّها قبل ذلك ، وزينّها وتزين بها ، تاركة البقعة الطيبة التي كانت تضيئها تلك الحبات .
فلم تكن تعلم تلك الزوجة أن الوحدة التي كانت تصفها ب( القاتلة )هي الحياة بعينها ، وأن الشمعة الصغيرة التي استهانت بضوئها كانت هي الشمس والقمر والنجوم ، لم تكن تعلم أن حبات اللؤلؤ كانت تستحق أن تغوص في الأعماق لأجلها مهما كانت الأعماق مظلمة ، ومخيفة ، وموحشة ، لم تكن تعلم أن كمال الأمور وتمامها لم يكن ليوجد في الدنيا ، بل يأتي كل شيء فيها ناقصًا يكمل بالرضا والتغاضى والتغافل ، لم تكن تعلم أن القرارات الحمقاء التي تأتى دون تعقل أو تريث لابد أن يعقبها ندم كبير ، وخسائر جمة لكل الأطراف ، ومهما حاولنا العدول والتراجع فلا شيء يعود كسابقه ، فقد تعود المياه لمجاريها ولكنها لم تعد صالحة للشرب .
وكذلك حبات اللؤلؤ إذا انسكبت من عقدها فلن تعود .
بقلم : فادية صقر