شيء مفرح ومحرك للأمل أن ترى شعبا يحتج على لصوص المال العام، وناهبي ثروات الأمة ومقدراتها؛ فهو الدليل على أنه يستبشع السرقة، والاختلاس، واغتصاب الحقوق،والسطو على أرزاق البلاد والعباد.
ويالها من كرامة أن تحيا وسط مجتمع بهذه الأخلاق الرفيعة، ونقاء السريرة، وبياض صفحة الضمير!
لكن مهلا..
أليس من الواجب أن نمتحن هذا المجتمع، ونقيس سلوك أفراده بالمقياس نفسه؟
وهل تسلم التصرفات والمواقف اليومية مما قد نعتبره سرقة لاتقل بشاعة وجرما؟
لنبدأ بالأسرة التي ينشأ في أحضانها كل فرد، ويتشرب القيم والأخلاق وحسن التصرف. لكن للأسف قد يتشرب فيها أيضا مفردات السرقة، والتطبيع مع مظاهر اللصوصية. داخل هذه الأسرة يتعايش الطفل مع ألوان من السرقة التي لانحفل بخطورتها: سرقة الوقت، وسرقة الفكرة، وسرقة ممتلكات الغير بمبررات أشد قبحا من الجرم المرتكب.
يفتح الصغير عينيه على أم تحذره من إخبار الأب بما رآه أو سمعه مقابل حلوى أو نقود، فيتعلم أول درس في السرقة وهو التحايل وإخفاء الحقائق.
يصير الابن شاطرا في نظر أمه التي يعتبرها مصدر الحنان والعطف، وبذلك يتخلص تدريجيا من عقدة الذنب التي تحركها فينا الفطرة السليمة، حين نُظهر للآخرين خلاف ما نُبطنه. هكذا يتدرب الطفل على ألوان السرقة والخداع التي تحظى بإعجاب الأم، ويبدأ بالتحرك على نطاق أوسع من البيت، فيمد يده لممتلكات الجيران والأصدقاء والشارع.
يكبر اللص فينا ونحن نتقلب بين الرفض حين يسرقنا الآخرون، وبين التقبل متى فزنا نحن بالغنائم. فيكون الدرس الثاني هو الاحتجاج على سرقات لم نحظ منها بنصيب. وأكثر تجليات هذا الدرس هو سلوك بعض مرشحي الانتخابات الذي يوزعون تهم السرقة، والنهب، وتبديد الأموال العامة في خطاباتهم وبرامجهم الانتخابية، ثم يتحولون بعد الفوز بالمقاعد إلى جزء من منظومة الفساد والنهب.
وفي كل بلد أمثلة من هذا القبيل يعرفها العادي والبادي، وتملأ روائحها النتنة أنوف قراء الجرائد، ومتصفحي مواقع التواصل الاجتماعي.
نتفنن في السرقة لتشمل مجالات عدة يضج بها واقعنا اليومي. فيتعلم الموظف سرقة الوقت، وتعطيل مصالح الناس بإضاعة الوقت، والتحايل على قواعد الانضباط والمهنية، ومواعيد الانصراف والدخول.
ولازلت أذكر، خلال التداريب الميدانية التي أجريناها على صعيد المدارس، كيف أن مدرسا يشغل وقت الصغار بالقراءة المملة، ثم ينشر سجادته على أرضية الفصل لأداء النوافل!
ومن سرقة الوقت إلى سرقة الفكرة والرؤية، وإبداعات الغير،حيث تحتفظ ذاكرة القارئ، دون شك، بوقائع عديدة لمن استباحوا جهود الآخرين في ميادين الإنتاج المعرفي والمهني بكل أشكاله:
أستاذ ينسب بحوث طلابه لنفسه، ويعيد نشرها في مجلات محكمة.
وكاتب يُجري تعديلا طفيفا على قصة أو أبيات شعرية، ليجعل من القول الأدبي مسخا إبداعيا بلا لون ولا رائحة.
ورسامة تسرق موضوعات أعمال فنية أجنبية، وتنبري في وسائل الإعلام للدفاع عن هذا الحق بعد افتضاح أمرها.
ثم تمتد الآفة إلى رحاب الدين والشريعة، فيظهرلصوص الإيمان الذين يتاجرون بقلوب العباد. ويصرفون الناس عن واقعهم المعيش بافتعال قضايا هامشية، والخوض في فروع لا يضر الجهل بها. ومنهم من يتلذذ بتخويفهم إن لم يرضوا بالذل الذي يعيشونه، حتى صار الطريق إلى نعيم الجنة لا يتحقق إلا بالزهد في الدنيا، والسكوت على الباطل وأهله، وتأجيل النظر في همومنا إلى يوم الحساب.
كلنا لصوص حين نتواطأ على اعتبار سرقاتنا ضرورة من ضرورات الحياة.
ولا سبيل للخلاص من سارق العلن إلا بتوبة ومراجعة جادة لسلوكيات السارق المتواري خلف قناع الضحية!
-
حميد بن خيبشكاتب شغوف