أن ما يمر اليوم في العالم من فساد وفقر ما هو الا نتيجة مفاهيم خاطئة ، التي تأصلت في مجتمعات اليوم , وهي لم تأتي الا نتاج ثقافة ومفاهيم خاطئة غرست في المجمعات لتدافع عن مصالح فئة معينة وتبرير ما تقوم به من فساد . ولكون الفقر نتيجة اكيدة وحتمية لهذه الثقافات والمفاهيم , ويساعد استمرار الفقر على حصول أصحاب النفوذ والمصالح على ما يرمون أليه هو تماما ما يسمى اليوم بالدولة العميقة .

ولا تقوم الدول العميقة على غرس مفاهيم خاطئة التي تعزز من استراتيجياتها وسياساتها فحسب بل وتجعل المجتمع يدافع عنها وكأنها مفاهيم ذات دلالات أخلاقية نبيلة . فعلى سبيل المثال تتلاعب بالمفاهيم حيث يطلق على الرشوة هدية وأصبح النصب و الاحتيال يطلق عليه شطارة و فهلوه واصبح المجتمع اليوم يدافع عن عدم وجود الشفافية والمساءلة بدافع انها أسرار دولة ولا يجب على الاخرين الاطلاع عليها ومعرفتها . واصبح النشئ والغير متعلمين ومحدودي التعليم وحتى المتعلمين يعتقدون انها مفاهيم صحيحة ويربطونها بالدين .

وعلينا أن نعمل على تصحيح المفاهيم الخاطئة وتوضيح التلاعب في المفاهيم والمصطلحات من خلال العمل على عرس مفاهيم الشفافية والمساءلة والمشاركة في المجتمع ودورها في تحقيق التنمية المستدامة للمجمعات ككل . فالشفافية هي أول خطوة من خطوات المساءلة، و المشاركة تعزز وتقوي المساءلة .ويتحتم علينا توضيح هذه المفاهيم فالشفافية هي الحرية والقدرة على الوصول لجميع المعلومات والبيانات بكل سهولة ولجميع فئات المجتمع وبمستوياتها المختلفة . والمساءلة تعني قدرت جميع الفئات وبمستوياتها المختلفة طرح سؤال من أين لك هذا؟ على جميع المستويات الادارية بكل أمان وحرية . أما المشاركة فتعني أشراك جميع فئات المجتمع في أتخاذ القرارات وايجاد الحلول والبحث عنها في المجتمعات المحلية الموجودة في كل نطاق وبما يتناسب معها كأشراك النساء والشباب وحتى كبار السن على حدا سواء . حيث يستطيعوا اجاد حلول لمشاكلهم من ذات نفسهم ،ويجب علينا تنمية المجتمعات والتركيز على تنمية الامهات لأنهن الأقدر على الرعاية والتعليم بحب، والصبر على الابناء ولهن فطرة لدعم وتشجيع انفسهن ومن حولهن .

ويجب علينا ذكر معنى الاستحقاق وهو طلب الحق ،أي يحق الحق لكل من بذل جهد وسعى للحصول على ما يستحقه بالعمل الجاد بعيد عن الوساطة والمحسوبية بمعنى وضع الشخص المناسب في المكان المناسب . وهي الوسيلة الأولى لمحاربة الفساد بكل انواعه وصورة . يمكن للاستحقاق زيادة ترسيخ الشفافية و المساءلة من خلال : رفع المراقبة الذاتية للأفراد أولاً ، وبصفة عامة يكون موظف الدولة على اطلاع بانه سيكون مسائلا في أي وقت، ورفع وعي المجتمع بمفهوم الاستحقاق يجعله واعياً بحقه في مساءلة أي موظف او مسؤول في جميع المستويات، و الاستحقاق يرفع من نشاط الافراد ومنافستهم الشريفة. من الامثلة الجميلة التاريخية قصة عمر بن عبد العزيز مع عمته التي اتت تطلب الحصول على مال كما كانت تحصل عليه في السابق من الخليفة سليمان بن عبدالملك بن مروان لكنه رفض ان يعطيها ما ليس لها وقام بأعاده المظالم من الامراء وأعاده المال العام الى بيت مال المسلمين. وعزز وارسى قواعد الحكم الرشيد ،ورفع الامتيازات عن جميع بني عمومته ومنع استغلال النفوذ في استغلال المال العام ، وضمان التوزيع العادل للثروات في جميع انحاء البلاد وعدم تمركزها على الاطلاق في يد فئة معينه ، واشراك الشعب والمجتمع المحلي و ضمان تنفيذ ومراقبة السياسات من العوامل المساعدة ، وعمل على زيادة الايرادات برفع التنمية المستدامة من خلال الحرص على زراعة جميع الاراضي وتشجيع أصحاب الأموال على الاستثمار وخلق فرص عمل لهم ، واصدار قانون منع الحصول على أموال بأسماء الموتى والحرص على تخصيص أموال للمواليد و التخلص من البطالة المقنعة . كما ابتدأ بنفسه وبأهل بيته في أرساء قواعد التخفيض من المصروفات . كما طبق المساءلة والشفافية والمشاركة لكل الولايات في عصرة ،واختار اولياء المدن بعناية فائقة .

أن شعور الافراد بانهم سواسية و متساوين وأن نجاح الفرد منهم هو نجاح الفريق ككل ويقلل الشعور بالحسد والبغض والكراهية ويزيد من الالفة والاستقرار والرغبة في النجاح لأنه شعور الشخص بأنه مميز عن الاخيرين يجعله يحاول ابراز نفسه على الاخرين ويحاول تدميرهم ليكون مميزا دائما مما يزيد من الفرقة والشتات ويجعل الفريق اضعف ويقع عند أول مشكلة.

لتفعيل الشفافية والمساءلة والمشاركة بكل ادواتها وأشكالها يجب علينا أولا التركيز على بناء مؤسسي قوي فعال وشفاف وخاضع هو أيضا للمساءلة في كل مستويات يضمن اتخاد القرارات على نحو يستجيب لاحتياجات جميع الفئات ويضمن أمانها وعدم تعرضها للإيذاء أثناء المساءلة سواء على مستوى المؤسسة أو الدولة أو أسرة بكل مستوياتها . كما يجب ثانيا غرس مفاهيم الشفافية والمساءلة والمشاركة في الجيل الصاعد من خلال استخدام أساليب التربية الإيجابية والتي تضمن تنشأت الاطفال تنشأتاً أخلاقية إنسانية سياسية اقتصادية صحيحة تضمن مشاركة الاطفال والنساء على مستوى البيت اولا ، والابتعاد عن العنف بكل اشكاله وصوره وتشجيع المجتمعات المسالمة تطبيقا للهدف 16 من أهداف التنمية المستدامة ثانيا . كما يجب التأكيد على غرس المفاهيم بطريقة واضحة وبسيطة في المجتمع و تسميتها بمسميات وبأسمائها الحقيقية فالهلوه هي سرقة على سيبل المثال . ويجب علينا التركيز على تغيير ثقافة المجتمع السلبية التي تتلاعب بالمصطلحات والمفاهيم ورفع وعيها لممارساتها الخاطئة دون وعي منها بذلك من خلال وسائل الاعلام المرئية والمسموعة وكذلك عبر مواقع التواصل الاجتماعي . كما يجب رفع وعي المجتمع بأهمية فصل السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية لتقوم بتنفيذ مهامها بكل شفافية ووضوح وتطمن سير أعمال كلا منها بشكل منفصل تماما . وأن دور المجتمع هو المساءلة لكل من الثلاث السلطات وعلى جميع المستويات لضمان سير الدول و تقدمها ولتطبيق العدالة على مستوى جميع الافراد في جميع المناصب لضمات قيامهم بواجباتهم وفي المقابل حصول الجميع على حقوقه . أن المجتمع هو الاداة الرئيسية للرقابة و ان استغفال الناس بدعاء( اللهم ارزق الحاكم ببطانة صالحه )هو تفكير بدائي غير صحيح يجب استبداله لان تركز السلطة في يده وحده (السلطة المطلقة ) تؤدي الى غطرسة الاستحقاق وغياب المؤسسات. والحاجة لوجود دستور جديد ينظم العلاقة بين المواطن والدولة ، وهو امر طبيعي لتزايد الفساد وتفاقمه وعدم القدرة على السيطرة عليه و التخلص منه . فيجب علينا أعادة تعريف الدولة (بأنها عبارة عن مجموعة مؤسسات التي تقوم على خدمة الناس والسهر على راحتهم) فنحن بحاجة في عقد اجتماعي جديد يأسس على مجموعة من القيم والاخلاق وضوابط الشفافية والمساءلة والمشاركة التي تنظم العلاقة بين الناس انفسهم وبين الناس والسلطات الثلاث .

الشفافية هي أن تبصر كل ما يحدث حولك بطريقة واضحة وسليمة والمساءلة هي السؤال عن التفاصيل و معرفة الحقائق ويحب تدريب الجيل الجديد و الناشيء على البحث والتمحيص والتدقيق عن كل ما يحدث حولنا والوصول الى الاسباب الرئيسية وراء كل ما حدث ويحدث حولنا ومعرفة اسبابه و نتائجه والحلول العملية المبدعة والمبتكرة و تطبيقها لحل كل ما يواجهنا. ومحاربة فساد الثقافة الاجتماعية بمحاربة المفاهيم المغلوطة يؤدي للحد من ظاهرة الفساد التي تُصدر للمجتمع بجميع فئاته من التربية و من المدرسة ومن الشارع التي تعزز الفساد بدون وعي منها بذلك وهي تعتقد انها تعزز القيم الصحيحة وهي في الحقيقة تعزز قيم مغلوطة . ويجب علينا رفع وعي المجتمع بالأثار المترتبة على الاستمرار في مثل هذه المفاهيم ويجب علينا وضع المفاهيم الصحيحة بأسلوب واضح ودقيق وبسيط يصل لجميع فراد المجتمع بما فيهم الاطفال والشباب والمتعلمين وغير متعلمين و اصحاب الثقافة المحدودة الغير مطلعة والغير قارئة ،من خلال التوضيح بمقارنة التصرفات الخاطئة و نماذج التنشئة الخاطئة وبالتصرفات الصحيحة وطريقة التنشئة الصحيحة ولفت أنتبه الاولياء الامور.

وختما فالمشروع المجتمعي لأي دولة مهم جدا لأنه يحدد طبيعة الفرد الذي نريده في النهاية. و هذا مرتبط بإدارة سياسية و استراتيجية وطنية لتحديد ادوار كل مؤسسة - من الاسرة الى المدرسة و الاعلام و غيرهم – و من المقاصد التي ارها ضرورية في عمل نشطاء المجتمع المدني لتعزيز الشفافية والمساءلة و المشاركة هي نشر الوعي العام بأهمية الفصل الكامل والتام بين السلطات الثلاث . ونشر الوعي بالأثار المدمرة للفساد والسكوت عليه على المستوى الفرد الشخصي والمجتمعي ككل . نشر قصص النجاح في محاربة الفساد على نطاق اوسع في الراديو والتلفاز. والبدء على نطاق الاسرة باستخدام أساليب التربية الايجابية في غرس مفاهيم المساءلة والشفافية والمشاركة وتعزيزها في الأجيال القادمة . وضع خطط وقوانين واضحة للجميع لمبادئ الحكم الرشيد من شفافية ومساءلة ومشاركة . عمل تطبيقات الالكترونية يستطيع الشعب مساءلة المسؤولين من خلالها وضمان أنتشار الامن وعدم تعرض افراد الشعب للتعذيب والتخويف لقيامهم بالمساءلة . نشر الوعي وتأكيد مسألة أن الحكومة هي في خدمة الشعب وليس العكس .

نوري أسعد 

رائده في معهد الفضاء المدني