بين ذاتية الماضي وموضوعية التاريخ
بقلم: رولا العمر
نشر في 15 يوليوز 2016 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
هل نبالغ لو قلنا أن محاولات الإنسان الأولى على بساطتها ومحدوديتها في مواجهة تحديات الطبيعة كانت هي أساس التقدم ...
أم أن هناك دافع خفي كان يجذب الإنسان إلى جوهر الأشياء والظواهر من حوله وكأن لها سلطة مطلقة لا تنفك تعطي الأمر للعقل بالتحرك والبحث عنها وسط هذا العدد الهائل من المتغيرات والتحولات؟؟
ومع تنامي الوعي البشري واتساع آفاقه فيما بعد هل كانت سطوة ما تم اعتباره قديماً من الثوابت والقواعد والمسلمات هي السبب في خروج العقل عنها والبحث عن طرق جديدة لإثبات حريته واستقلاليته وبرهان وجوده؟؟
رغم الإعتراف بأن القضايا التي أثارت تلك التساؤلات لا تقبل الحسم لكنها بلا شك كانت فكرة التقدم والتطور التي أشعلت وعي الإنسان، وحملت ثقل امتداد المعنى لصرخة ضميره الذي لا يهدأ حين أدرك أنه لا سبيل للتقدم إلا بالبحث...
ولا وسيلة للفكر في ادراك حقيقة الأشياء واثبات خصائصها إلا باخضاعها لآليات بحث تناسبها ..
فإذا كنا نرى الوجود مكتوب بلغة رياضية وهي القياس لكل شيء فهذا يعني أن التجربة هي السبيل للوصول إلى الحقيقة واليقين ..
أما إذا كانت ظروف المعرفة ضبابية ومعتمة وتعج بالتناقضات فلا بد من فكر مستقل يمعن النظر بتعمق في معنى وجدوى المبدأ والوسيلة والهدف.
لكن ماذا عن علم الحياة والحركة"علم التاريخ" العلم الحيّ النابض بسنن التقدم والتغيير حيث الإنتقال من مرحلة إلى أخرى جديدة، وما يقترن بهذا الإنتقال من خوف وتوجس ورغبة قوية تتملكنا وتجعلنا حريصين كل الحرص على أن يكون التغير والتبدل ظاهرياً دون المساس بالجوهر.
فترانا نتساءل متأملين بإنصاف أهمية هذا العلم عن دور العاطفة في بناء المعرفة التاريخية ؟ وهل يمكن فعلاً أن نكتب ونقرأ التَاريخ بموضوعية بلا تحيّز ودون أن يساور الباحث أو القارئ شعور الحُبْ أو الكَراهية ؟
هل نحن على استعداد إذَنْ لأن نواجه تساؤلاتنا فعندما يلتقي أي موضوع بالعاطفة لا مفر من السير في دروب بحث شائكة ووعرة وبكل تأكيد ستزداد الأمور تعقيداً وتداخلاً في حضرة وعي مرتبك غير قادر على تنظيم العلاقات بين الأفكار والأشخاص وبين الذات والموضوع..
لذا أرى أنه من الضروري تحديد تصوراتنا على مساحة بيضاء مسالمة ومحايدة في أذهاننا نطرح فيها كل ما يخطر ببالنا من تساؤلات وأفكار دون أن تقلقنا مسألة الحرص على أن يكون ما نبحث عنه ملائما لأفكارنا السابقة أو الرأي السائد المفروض علينا أو حتى أن نكون في موقف دفاع حتى نتمكن من تناول الفكرة من جذورها فتتضح معالم الصورة الكلية لها ...
نعلم بأن التاريخ هو علم يدرس أحداث الماضي ويبحث في القوانين والعوامل التي توجه حركة التاريخ وعوامل نشوء الحضارات والتطورات الاجتماعية والاقتصادية والفنية والعلمية التي رافقتها وأسباب انهيارها واضمحلال قوتها وهو خاضع للنقد والمقارنة والتحليل والتأويل والتعديل .
لكن ما سر هذا الخيط الرقيق الذي يربط بين التاريخ والعاطفة حتى وإن لم نكن بصدد عقد محاكمة أخلاقية للوقائع والأحداث التاريخية ؟
أعتقد أن السبب يرجع إلى الأساليب البدائية التي كان يدون بها التاريخ وتفسر بها الظواهر حيث امتزجت فيها الحقيقة بالأسطورة والخرافة، واصطبغ الواقع بشاعرية الخيال وذلك لإضفاء المزيد من الجاذبية والعذوبة والتشويق على القصة التاريخية حيث أنها كانت بالدرجة الأولى شأنها شأن أي فن أدبي تهدف إلى مخاطبة العاطفة واستعراض جمال اللغة والصورة وهذا بالطبع كان على حساب المضمون والحقائق التاريخية ..
إن التاريخ لم يصبح علماً إلا عندما تناوله العقل بالنقد والتحليل والمقارنة ...هنا وكنتيجة لتلك الخطوة الفارقة حدث أمر مهم بالنسبة لنظرة الإنسان للتاريخ إذ لم يعد علم دراسة الأحداث الماضية وأحوال الأمم السابقة فقط بل توسع هذا المفهوم بحيث أصبحت المادة التاريخية أداة لفهم وقراءة الحاضر من منطلق أن الحاضر ليس الا نتاج سياسات الماضي بل والتنبؤ بالمستقبل من خلال الإلمام بمعطيات الحاضر وتفاصيله .وهذا يعني انتهاء عصر القراءة الرومانسية للتاريخ والذي كان يروى كقصة أو حكاية بهدف التسلية والإمتاع وحفظ ملامح أبطال وشخوص تلك القصص في عملية تحنيط تضمن لهم خلود سيرتهم وانجازاتهم في ذاكرة الناس..
لكن هذه النظرة العقلانية للتاريخ لم تمنع البعض من توظيفه لغايات إضفاء الهيبة والعظمة التاريخية على قرارتهم أو بتعبير آخر كانت طريقة لــ "عقلنة" أحداث الحاضر باجترار سلوكيات قام بها الأجداد في مناسبات مشابهة لكن على قاعدة أن البشر يفكرون بطريقة ويتصرفون بطريقة أخرى فالناس و على الرغم مما يظهر عليهم من مظاهر التقدم والتطور إلا أنهم في الغالب يستأنسون بالماضي ويرون فيه ينبوعا لا ينضب من الضمانات والتبريرات والتفسيرات لما يحملونه من مشاعر وأفكار بل قد يقودهم هذا التشبث الأعمى بالماضي بدلا من محاولة التكيف مع التغييرات والتطورات التي يفرضها التقدم إلى تقديس وتبجيل أشكال من السلوكيات انتهت صلاحيتها بكل المقاييس وفقدت قيمتها النفعية.
برأيي هذا أمر غير صحي وباعث على التناقض والاضطراب فنحن فكرياً لا نرث زمناً أو أحداثاً تاريخية بل نرث ثقافة وهي فكر وروح الحضارة أما الحضارة فهي ثمرة المعرفة والثقافة والتجربة .
فالثقافة قد تكون وفق المنظور الحضاري والتاريخي "نقطة تلاشي" أو "الخلاصة " عل اعتبار أنها جزء من التاريخ وهو جزء منها فهي بحاجة لزمن لكي تتشكل وتتطور وكذلك الأمر بالنسبة للحضارة .
لكنها في تاريخ الحضارات تتميز بكونها هي الأساس الذي ينبثق عنه التحرك التاريخي.
فهل يمكن أن تقوم حضارة في بيئة انعدمت فيها العلوم والقيم الأخلاقية المنظمة للسلوك مثلا!
هل يمكننا تحقيق انجاز بلا معطيات علمية وثقافية!
من هنا يمكن القول بأن وظيفة الثقافة الأساسية تتمثل في العمل على تنظيم وتهذيب سلوك الإنسان في صراعه من أجل البقاء لتجعله مواطناً صالحاً وعضواً نافعاً في مجتمعه ثم الإرتقاء به وبمظاهر حضارته المادية إلى مستويات أفضل ..
وبناء على هذه الملاحظة نستطيع تمييز نوعين من الثقافة ثقافة جامدة ساكنة في تجاهل تام لحركة الزمن مكتفيه بالمستوى الحضاري الذي وصلت إليه مهما كان بسيطا ومتواضعا مقارنة بالحضارات الآخرى ...
وثقافة محركة مرنة واعية لا تتآمر على ذاتها مدركة لتحديات العصر وهي بحركتها المستمرة تلك توجد لنفسها أسباب وعوامل بقائها واستمرارها.
وهذا يعني أن الوعي الذي ينصف ذاته بثقافة قابلة للتجديد والتحديث يضمن استمرارية وجوده الحضاري مهما اختلفت ظروفه المكانية الزمانية...
من المؤكد أن التاريخ في ترابط أبعاده الماضي والحاضر والمستقبل يستمد معناه وقيمته من مستوى الموضوعية التي تتحلى بها الدراسة التاريخية مما يعني أن محاولة احاطة التَاريخ ِالإنسَاني بِلَمحَة بصر أو بالبحث ِالعَشوَائي بينَ السّطور أمر لا يليق بدارس وباحث حقيقي بالتالي إذا لم يتسم البَحثُ التاريخي بالمَوْضوعية والتجرد فلا مَكانِ له ولا معنى بين العُلوم ويشمل ذلك حضور العاطفة أثناء صياغة وتحليل النص التاريخي فالحب والكراهية أمور نسبيه لا تعني شيئا في قاموس السياسة والتاريخ واعتمادها كأدوات قياس لفهم وتفسير الأحداث التاريخية التي تنتجها معادلة الزمن في عالم متغير هي علامة ضعف وخلل وارتباك..
لكننا قد نشك في امكانية تحقيق ذلك قائلين : أننا نطلب المستحيل حين نشترط اقصاء العاطفة تماما في تقييم الأحداث خصوصا أن الحالة العاطفية في كثير من الأحيان تكون خارجة عن سيطرة الإنسان وهو مزيج معقد من المشاعر والأحساسيس .
ثم أن هناك الكثير من الأفعال التي يقوم بها البشر ذات منشأ عاطفي فكيف لنا أن نقيمها ونتعامل معها ونتفهمها بشكل صحيح دون النظر لها من منظور عاطفي ؟
إن المشكلة ليست بالتفاعل العاطفي بحد ذاته فكل ما يحدث حولنا يفرض علينا كل لحظة واقعا جديداً له تداعياته التي تؤثر فينا هذا أمر لا خيار لنا فيه لأننا بشر لنا ثقافاتنا ومعارفنا التي لم نكتسبها دفعة واحدة بل نتيجة تفاعل الوعي مع الأحداث خلال فترة طويلة من الزمن هذا بالإضافة إلى أن البشر لا يأخذون مظاهر الحضارة بالقوة والقهر، بل بنسبه ما تلقى من قبول في نفوسهم ومدى ما تقدمه من فوائد تساهم في تطوير وتجديد معارفهم..
لكن موطن الخلل يكمن في عدم انسجام منطق العاطفة ومعيارها الذي يجيز التناقض ويتبع الرغبة مع طبيعة المعرفة التاريخية التي تقوم على دراسة الواقع كما هو وتناوله بالنقد والتحليل .. ذلك أن أهم الأسباب التي تقف وراء بحثنا عن المعلومة التاريخية ومطالبتنا بإماطة اللثام عن دوافع التغيير لكل مرحلة زمنية هي حاجتنا لرؤية مسؤولة تتسم بالشفافية والحياد ... لنضوج له شكل محدد يعالج تناقضاتنا ويقرب بين وجهات النظر المختلفة ويخضع أحكام العاطفة المتسرعة لسلطة العقل...
كذلك يدخل في نفس الإطار لو قمنا مثلا بربط موضوع ينتمي لموجود متحرك وهو التاريخ الذي جوهره التغيير والإختلاف والتفرد أو عادات يمكن أن تنشأ تلقائيا عن الحياة اليومية لمجتمع ما بمفاهيم نحسب أن تصوراتنا عنها مطلقة وثابتة كالخير والشر أو الصواب والخطأ ثم تفسير وتقييم الواقع من خلالها متجاهلين تماما أن مضمون هذين المصطلحين أصلا قد تعرض للتغيير والتعديل في وعينا مع مرور الزمن، وتغيُّر المكان.
إن اعتماد هذا النمط من التفكير وفي كلتا الحالتين ليس إلا شكلاً من أشكال الوعي الزائف ولا أرى فيه إلا وسيلة تعبير عن ما يرضي الأهواء ويخدم المصلحة الخاصة ..ولن تكون نتيجته إلا المزيد من الصدامات بين وجهات نظر مناقضة للواقع ورؤية منحرفة حافلة بالنقائص مجيشة عاطفيا لا يمكن بواسطتها استخراج خصائص عالية التجريد توضح معالم الصورة الحقيقية للأشياء وتكشف عن القوانين الكلية التي تحكمها وتحولها من مرحلة إلى أخرى.
وهذا يدفعنا إلى القول بأنه ليست من مهام المؤرخ ولا من مهامنا تقسيم العالم إلى أخيار وأشرار فهذه قراءة غير عادلة تفتقر إلى الدقة والنزاهة خصوصاً لو كنا بصدد البحث عن الأسباب والغايات التي تقف وراء الأحداث التاريخية فما ينطبق على البعض ليس بالضرورة أن ينطبق على الكل وما هو خير أو شر في زمان ومكان محددين قد لا يكون خيرا أو شراً في زمان ومكان آخرين.
إن ما يمكن اعتباره تصوراُ منطقياً وموضوعياً للخير والشر وصورة حضارية من صور رقابة الضمير على السلوك الانساني وعودة إلى الطبيعة الإنسانية التي تميل إلى التعاطف والاجتماع والتعاون مع الآخرين و استجابة لحاجة الإنسان للحماية والشعور بالأمان ضمن جماعته التي ينتمي إليها هو حين عرف الإنسان من خلال فهمه ووعيه لهذين المصطلحين الخير والشر ماهية الحق والواجب واشتق تشريعاته وقوانينه لغايات تنظيم حياته في كافة المجالات .
وما ينطبق على علاقة الفرد مع مجتمعه أو دولته ينطبق أيضا على الدول في علاقاتها مع بعضها البعض.. ومن هذا المنطلق لا يمكن أن نلغي أو نتجاهل أهمية القيم الأخلاقية ودورها حتى لو كانت على أرض الواقع غير قادرة على مجاراة القوة التي جعلت الإقتصاد والتسلح العسكري هي مجالات التنافس والصراع بين الدول..
والآن هل هناك ما هو أكثر سوءاً وسذاجة من الإعتقاد بأن التاريخ مدينة يسكن المنتصرون في متونها بينما يكتفي المهزومون بالهوامش ؟
الحق أن عبارة "التاريخ يكتبه المنتصرون" لا أرى فيها أكثر من وجهة نظر مهمة قيلت في ظروف سياسية معينة تناسبها أمّا السذاجة الحقيقية كانت في انتشارها كمفهوم للتاريخ واعتبارها قاعدة من قواعد المعرفة التاريخية.
فما جاء به التاريخ لا يختلف عن واقع عالمنا المعاصر الذي تحكمه وتحركه المصالح ولا يخالف قانون الزمن الذي لم يستثنِ أمةً أو مجتمع من حركة التغيير تلك ولم تسلم بفضله فئة من خوض صراعها الحضاري في سبيل تحقيق ذاتها...
ولا ننسى أنه وفي الجهة المقابلة من التاريخ هناك جانب مشرق قائم على الحلول الوسط ....
جانب أكثر سلاماً وهدوءاً يؤكد لنا التاريخ فيه أن الحضارات تتلاقح وتتكامل فلا حدود فيها للكفاية فيما تقدمه للإنسان من وسائل الرقي والتطور والتفاهم والأمان والاستقرار والسلام .
في النهاية تبقى مسؤولية المؤرخ مسؤولية أخلاقية فهو الضمير الذي تستند عليه البشرية للوصول إلى الحقيقة والهدف ليس اثارة المشاعر وشحن النفوس بل مخاطبة العقل وتحفيزه برؤية متكاملة للتاريخ بكل ما يحتويه من قيم ثقافية وجمالية تشجع الناس على تقبل الآخر واستيعاب تطورات العصر والانسجام معها بأقل عدد ممكن من الأخطاء والخسائر، أي أن يقدم لنا من مستودع الخبرة البشرية ما يثبت أن الكلَّ في دائرة الزمن تاريخ...