إشكالية التسييس أو السياسوية قراءة في القضاء المُسيّس - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

إشكالية التسييس أو السياسوية قراءة في القضاء المُسيّس

القضاء المُسيّس

  نشر في 04 يوليوز 2015 .

لا أريد الحديث عن السياسة كعلم له شرائطه وآدابه وأخلاقياته، وإنما أريد الكلام عن السياسة كممارسة خاطئة يتم إقحامها في غير مجالها فتجعل من عالي الأمور سافلها، وتذهب ببهائها وتُفسدها؛ أو ما يُمكن تسميته: "السياسوية"؛ مع أنه من الناحية اللغوية – فيما أعلم - لا يستقيم إدخال الواو للتعبير عن نسبة الشيء إلى مصدره كنحو قولنا: سياسوي أو نخبوي أو إسلاموي...لكن أجد أن هذا الإسفاف اللغوي أو التكسير اللغوي – إن صحت مني العبارة – فيه تلميح دقيق إلى الأخطاء التي تكتنف بعض التصرفات المفتعلة أو المستحدثة تحت عناوين ملونة، وفيه أيضا توجيه للفكر إلى ما تشتمل عليه مثل هذه التصرفات أو دعوني أقول التوجهات من أخطاء واعتسافات.

وعلى فرض القول بصحة لفظة: "سياسوية" من حيث لغة العرب القُحّة الرصينة؛ إلا أنها صارت مصطلحا سياسيا أخذ مكانه في القاموس السياسي، وصار عنوانا: لكل "نزعة تعبر عن الغُلُوّ السياسيّ، أو تغالي في إضفاء وتغليب الطابع السياسيّ على الأمور". قلت: حتى لو كانت هذه الأمور أبعد ما يكون عن السياسة وما يجري في باحات وأروقة السياسيين من كولسة سياسوية.

أعتقد جازما أن محلّ طرح التوجهات السياسوية في كل مسألة لا يكون للسياسة مدخل فيها؛ أو لنقل عند تسييس بعض المسائل أو الموضوعات أو القطاعات أو ما يعتري واقع الأمة من مشاهد لا صلة لها بالسياسة بل هي عن السياسة أبعد؛ يكون الهدف منه في الغالب الأعم: التوجيه المخطط له نحو خدمة توجهات سياسوية سائدة، ولست أرى التأثير السياسوي إن وُجد إلا مقصودا، ولا يقع من قبيل الصدفة إلا نادرا لظروف استثنائية، وهذا برأيي ضرب من المغالاة في استعمال السياسة استمعالا معتسفا تحقيقا لمصالح ضيقة، لا ينال منها المواطن إلا حظا يسيرا، ويبقى للسياسويين في السياسة مآرب شتى.

ومن مجالات التسييس الخطير، ومن القطاعات التي نالت حظا نسبيا من التسييس والإغراق السياسوي أو على الأقل هو من بين القطاعات المستهدفة من طرف السياسويين: القضاء، وهو عنوان العدالة وحاميها وراعيها، استقلاليته وحيدته (حياده) مئنّة (علامة) على أن هيبة الدولة أمام نفسها وشعبها محفوظة، وأن مكانتها أمام دول الجوار الشقيق أو دول العالم الأخرى مرعية؛ إذ من المعلوم أن قوة القضاء عامل مهم من عوامل رفعة الدولة بين سائر الدول، وعلامة صحية على أن حقوق مواطنيها مرعية مصانة؛ لهذا قال الشيخ محمد عبده: "اعطني قاضيا ولا تُعطني قانونا".

عندما يقوى القضاء كجهاز سلطوي أو سلطة قضائية، والقاضي كممارس لهذه السلطة على مكافحة الفساد بأشخاصه الطبيعيين والمعنويين؛ مهما كانت صفاتهم ومنزلتهم ومكانتهم ومراكزهم المجتمعية والسلطوية؛ عندئذ نكون أمام قضاء مستقل ومحايد ونزيه، ونطمئن على واقع العدالة ورشادة الحكم.

ليس الإشكال في صناعة القانون القضائي (القانون الأساسي للقضاء أو القانون العضوي للقاضي)؛ بقدر ما هو في صناعة القضاء وإعداد القضاة المقتدرين المؤهلين؛ الذي يتمتعون بكافة ضمانات الاستقلالية والحصانة من أشكال الضغط والإكراه والمناورة (الاعتداء اللفظي)؛ ليس فقط الضمانات الدستورية والقانونية المنصوص عليها ضمن أحكام الدستور والقانون الأساسي للقضاء وبقية النصوص التشريعية التنظيمية؛ إذ يمكن تعطيل هذه الضمانات في ظلّ غياب إرادة سياسية حقيقية للتخلي عن توجّهاتها وتوجيهاتها السياسوية.

إن تسييس القضاء وتوجيهه وفق إملاءات فوقية خفية غير معلنة أو حتى معلنة مفضوحة غاب عنها الحياء؛ آفة تقصم ظهر القاضي وتذهب بهيبة القضاء في المجتمع، ومن ثم لا يبقى للقضاء المكانة المأمولة وقد صار قضاء مُسيّسا ومُوجّها وفق أهواء السياسويين وأمزجتهم، ولا نفع يُرتجى بعد ذلك من القوانين والنصوص التنظيمية وقد غرق القضاء في مستنقع السياسوية الآسن.

هذا ويمكن أيضا طرح إشكالية القضاء المسيّس أو السياسوي تحت عنوان آخر: قضاء الليل أو القضاء المكولس (من الكواليس)؛ وهو ما يقع خفية أو حتى علانية من غير احتشام في ردهات المحاكم وأروقة القضاء من تسويات سياسوية لبعض النزاعات والخصومات بأحكام وقرارات مُريبة تفوح منها رائحة التسييس المقيت، بدلا من عبق العدالة، لا سيما إذا تعلّق الأمر بالقضايا الشهيرة التي تصنع الرأي العام وتشدّ اهتمام الجماهير، وتمسّ بمصالح جهات نافذة في دواليب الحكم والسلطة، ولها تأثير على صناعة القرار والمشهد السياسي.

ومنه أيضا: القضاء الموجّه: وهو عنوان آخر من عناوين القضاء المسيّس أو السياسوي؛ فالقضاء الموجه - وقد تقدّم ذكر طرف من مدلوله - كل قضاء يخضع لنفوذ السلطة التنفيذية والسياسية وأرباب المال، يلتزم فيه القاضي بالحكم وفق توجيهاتهم وإملاءاتهم ولو وقع ذلك من القضاة نسبيا.

هذا ومن المهم التاكيد على أن القضاء المسيّس هو قضاء أبعد ما يكون عن النزاهة والاستقلالية، وأن القاضي وإن حاز امتيازا سلطويا عن طريق الدستور أو القانون تحت عنوان: "السلطة القضائية" وما يضمن استقلاليتها؛ أي أنه صاحب سلطة وليس صاحب وظيفة فقط (الفصل في النزاعات)؛ إلا أن واقع الحال عند الحديث عن إشكالية القضاء المُسيّس يُظهر أن القاضي أحيانا يُمارس وظيفة ولا يُمثل سلطة محايدة ومستقلة.

فرق بيِّنٌ بين السلطة القضائية والوظيفة القضائية؛ السلطة القضائية: تعني أن القضاء قسيم لسلطتي التشريع والتنفيذ؛ لكل منها صلاحيات واختصاصات تمارسها بكل استقلالية وحيادية دون أن تتجاوزها إلى صلاحيات واختصاصات بقية السلطات؛ إلا ما يتطلبّه مبدأ الفصل بين السلطات من تعاون وتكامل بينها وهو المفهوم المرن لمبدأ الفصل بين السلطات الذي طرحه الفيلسوف والمفكر الفرنسي: "مونتسكيو" في كتابه: "روح الشرائع" أو "روح القوانين".

لهذا وجدنا أن المشرع الجزائري (المؤسّس الدستوري) في إصداره الثالث لدستور الجمهورية الجزائرية عام 1989 في إطار الإصلاح السياسي، وما تطلبه من انفتاح على التعددية الحزبية، وتخلي السلطة السياسية أخيرا عن توجهاتها الاشتراكية الشمولية (نظام الحزب الواحد)؛ التي لم تخل من التسييس والسيطرة المطلقة على مؤسسات الدولة ووظائفها ومنها وظيفة القضاء باسم الحزب الواحد الحاكم، جعل من القضاء سلطة بعد أن كان مجرد وظيفة كما في دستور 1976.

وهنا تجدر الملاحظة أيضا، أن القضاء كوظيفة يختلف في مدلوله عن القضاء كسلطة؛ فالوظيفة تُشير إلى علاقة التبعية التي تربط الموظف برئيسه (مسؤوله)، والتي تجعل أمر تعيينه وتأديبه وإقالته بيده أو على الأقل فيها إشارة إلى أن للرئيس أو المسؤول الإداري سلطة في ذلك وقد تكون أحيانا سلطة تعسفية مُنافية للقانون، بخلاف السلطة التي تحمل مدلولا قياديا يجعل القاضي في مأمن من تجاوزات أصحاب السلطة وأرباب التأثير.

وفي ذيل هذا المقال، تجدر الإشارة إلى أن تأثيرات تسييس القضاء وتداعياته السياسوية على المشهد الاجتماعي لا مناص منها، يكفي أن تتأثر هيبة القاضي مجتمعيا، وتتهلهل استقلاليته، وتتململ حيدته، وتزعزع مكانته في المجتمع كحامي لحقوقهم وراعي لمصالحهم من تجاوزات السياسويين، وأيّ قيمة يُبقيها التسييس وتَذَرُهَا السياسوية للقضاء ؟!

د/ عبد المنعم نعيمي

كلية الحقوق- جامعة الجزائر 1


  • 1

  • عبد المنعم نعيمي
    وما من كاتبٍ إلا سيفنى *** ويُبقي الدَّهرَ ما كتبت يداهُ *** فلا تكتب بخطك غير شيءٍ *** يَسُرّك في القيامة أن تراهُ
   نشر في 04 يوليوز 2015 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا