ما هي عادات الروائي في القراءة؟
وما شكل علاقته بالكتب و المكتبات؟
أسئلة تراودنا حين يتملكنا الانبهار أمام روائع أدبية ك"مئة عام من العزلة"، و"مدن الملح"، و"الطبل والصفيح"، وروايات نجيب محفوظ ورضوى عاشور وصنع الله إبراهيم وغيرها؛ من باب الفضول أولا، ثم لتتبع الخطوات القرائية التي قادت إلى إبداع من هذا القبيل.
أن أقرأ هو أن أخلق الصيغة السينمائية العقلية الخاصة بي من نص ما، يقول أورهان باموق الروائي التركي الحائز على نوبل 2006، لابد للإنسان أن يمنح خياله الخاص فرصة القيام بدوره. وما يجعل القراءة شديدة الإمتاع بالنسبة له هو الوعي بالذات، أي أن هناك جزءا من عقولنا يجب أن يقاوم الاستغراق الكامل في النص. هذا هو السبب في أن باموق يحمل معه الكتب كما لو كانت تمائم تجلب السعادة، ليقرأ أينما ذهب، ويفتح الكتاب كلما شعر بالملل ليسترد هدوءه وتقديره لنفسه ككاتب.
غير أن المتعة عند نجيب محفوظ تحولت إلى نَهمٍ حاد لم يخفف منه سوى إصابته بمرض السكري. فكان يقرأ أكثر من كتاب في وقت واحد، ولا يعيد قراءة كتاب إلا إذا كان عملا عزيزا على نفسه كالحرب والسلام لتولستوي، والبحث عن الزمن الضائع لمارسيل بروست. ويدين محفوظ بشغفه القرائي للشيخ مصطفى عبد الرازق قائلا: "هو الذي علمنا أن نقرأ ونحن نقطع الطريق مشاة، بين بيتنا والجامع الأزهر في كل مطلع صباح قرابة ساعة، وفي مساء كل يوم كذلك".
ولا يكفي تمرير العين والعقل ببطء ليحصل المرء على متعة القراءة، بل ينبغي الشعور بالألفة مع محتوى الكتاب لبلوغ حالة من التواصل الفكري مع المؤلف. كتبت الروائية الأمريكية سوزان سونتاغ الملاحظة التالية بعد قراءة يوميات أندريه جِيد :" أنهيت قراءة هذا الكتاب في الساعة الثانية والنصف صباحا، في نفس اليوم الذي اقتنيته فيه. كان يجب أن أقرأ ببطء أكثر، ويجب إعادة قراءته مرات عدة. أنا وجيد وصلنا إلى المشاركة الفكرية التامة.. لأني لا أقرأ هذا الكتاب فقط بل أبدعه بنفسي أيضا." والسر في البحث عن الألفة أن البراعة الفنية في بعض الكتب تترك انطباعا قويا يجذبك لأن تواصل القراءة لساعات طويلة.
بالمقابل تحتج فيرجينيا وولف على أية نصيحة يسديها شخص لآخر حول ماذا أو كيف نقرأ. كل ما عليك فعله هو أن تتبع حواسك وتستخدم عقلك من غير الحاجة لسلطة خارجية. أقحِم نفسك أكثر في عالم القراءة دون خطة مسبقة، وانتظر ريثما يستقر غبارها وتهدأ التساؤلات وتضارب الأفكار. بعدها فجأة وبدون إرادة منك ،سينكشف الجانب المظلم من العقل لتبدأ بتمرين طاقاتك المبدعة.
ويبدي الروائي السوداني أمير تاج السر حساسية من هذه المسألة، على اعتبار أن المرء مهما كبر وتمدد في القراءة الإبداعية، أو غير الإبداعية، لا يمكنه تحمل مسؤولية توجيه الآخرين إلى نهجه في القراءة. فقد يبدو الروائي المخضرم مؤهلا للإشراف على ورشة لتعليم الكتابة، والقاص المهم على ورش للقصص القصيرة، لكن من ذا الذي سيشرف على ورشة لتعليم الناس قراءة الكتب؟
إن الحالة المثالية برأي وليام فولكنر، الروائي الأمريكي الحائز على نوبل 1949، هي أن تجلس إلى طاولة مزدحمة بالكتب وتقرأ. لذا حرص على الاستيقاظ في الرابعة صباحا، والجلوس لساعات عديدة إلى طاولة أهدتها له والدته. ولما ضايقه الصحفيون والمعجبون، بعد نيله للجائزة العالمية، اضطر لبناء جدار عال حول منزله ليواصل القراءة والكتابة معلنا :" سأستمر على هذه الحال إلى نهاية عمري؛ وأتمنى أن أتلاشى من حياة الآخرين، وأُحذَف من التاريخ من دون أثر ما عدا كتبي !".
وقد تفضي بك الحالة المثالية إلى أن تصبح سارق معرفة، تطيل الوقوف أمام المكتبات لتنفق ما في جيبك مقابل الكتب؛ وتحقق بعضا من حلم ظل يراود الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا : بناء دار مفتوحة ترتب على رفوفها التي لا تنتهي كتبك، وتدعو الجميع للقراءة والكتابة !
وحين يطرأ على جسمك الوهن واعتلال الصحة، وتبحث عن أعذار لترك مكتبتك فريسة للغبار والعناكب والنسيان، يدعوك مارسيل بروست أو ألكسندر دوما الأب لتجريب عادة القراءة على فراش المرض، أو ممددا على الأرض وتحتك وسائد عديدة. من يدري، فقد تلهمك القراءة على هذا النحو إبداعَ عملٍ شبيه ب"البحث عن الزمن الضائع" أو "غادة الكاميليا" !
ولعل أجمل نصيحة تلخص سعيك لمحاكاة عادات القراءة عند الأدباء هي مقولة الروائي الفرنسي غوستاف فلوبير:" لا تقرأ مثل الأطفال، من أجل المتعة، ولا مثل الطموحين، بغرض التعلم. لا، اقرأ كي تعيش !".
-
حميد بن خيبشكاتب شغوف