مدينة بلا هوية: مساء الموت أيتها الحياة - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

مدينة بلا هوية: مساء الموت أيتها الحياة

::: زياد فراشة :::

  نشر في 02 ماي 2015  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

" هو أيضا، لم يعد يحلم كل ليلة، لقد سكن هذه المدينة، على مضض، ولم يكن له قدر الإختيار، أو الإختباء.

مر كل شيء مسرعا، في غوغاء، لا هدف له كان منذ البداية، ولا إمتلك قداحة يحرق بها المرارة التي تعتريه، نصف ساعة ورحلنا، وبعدها عدنا مكرهين إلى نتانتها الخبيثة.

تعلم أن يدخن، بسببك أنت، أُجزم أنه يفعل، وبشراهة أيضا، لكثرة التفكير فيك ربما. أكل أصابعه أمامي ندما، لأنه أخطأ في حقك ذات مرة، ولم تسأليه لماذا، عندما كذب عليك. وعما قريب، وهذا من باب الحمق الذي يتربص بي وبه الآن، سيتحول إلى كائن ليلي، يتسكع في الشوارع الخالية من الضجيج، يركل أكوام القمامة التي تنتظر الصباح، يُعرج على بائع الحلزون في الملاح (1)، يُهدي مجموعته القصصية لأول بابوش (2) يعلق بملعقته، وبعد أن يتبول في المرحاض العمومي، كسلوك حضاري من إنسان يعي جيدا، أن كل شيء مشترك في هذه المدينة، في هذا البلد، هو في مصلحة فئة قليلة فقط... يصفر كصقر اللامبالاة.

يمنح الدريهمات لعاهرة قديمة، تحرس الزقاق السريالي، الذي كانت تعمل به، لم يعد جسدها النحيل يُسعدها، يُسعفها على اصطياد طرائد سمينة. تسألني كم الساعة، فيتفطن أن ساعته قد سُرقت عندما كان يساعد ذاك العجوز الذي أراد عبور الطريق السيار. كلما خرجنا إلا ووجدنا عجوزا يريد أن يقطع الطريق، وكل يوم أسمح له بأن يسرق ساعتي، هكذا كان يقول لي.

تسألني لماذا تتركونه يتكلبن عليكم، يقول لها، بنفسية صدئة، لو لم يكن هناك كل مرة لما وجدت حلاوة في أن أقطع الطريق السيار، وأن أوقف تلك السيارات المسرعة بالرغم من أنف أحصنتهم النفاثة، وأُبحلق بثقة في وجوه السائقين، الخائفين، الصامتين...

هو لا يمقت أحدا، ولا يكره إنسانا، لكنه يتذكر أن كل أحلامه كانت أن لا يموت كلبه دون أن تدهسه سيارة، وفي كل مرة كانت تتكرر نفس المشاهد، يسبقنا الكلب فرحا، نركض وراءه بمرح، أتعثر بصخرة، ينحني ليمسك بيدي، أضع أصابعي في مكانها الصحيح بالحذاء، فنتفاجئ بصوت السيارة التي إرتطمت دون حياء، وأنين الكلب ينهمر على قلوبنا الصغيرة، يتوقف السائق قليلا، ينظر إلي، لأن ركبتي بها دم يسيل، ثم يقول لنا إبتعدو عن الطريق يا حثالة، نحمل الكلب الميت، يتألم ويضحك وهو يخرج آخر شهقاته، كل الكلاب التي كانت بحوزتنا تضحك عندما تموت، نسرع به للبيت، يخبر الجميع أنه مات بحضنه ككل مرة.

أسأل أبي، بلهفة منتقم، لمن هذه الأرض التي ندفن فيها الكلاب، يقول لنا إنها أرض جدكم، والأرض التي شيدوا فوقها الطريق السيار، إنها في ملكه أيضا.

يحك عيونه، كمن ولد أول مرة، أبكي بدوري كعصفور تاه عن إخوته، نفهم ولا نفهم، وفي الغد نُخبر جيش الأطفال بالحي أن اللاعب رقم إحدى عشر قد دهسته سيارة، لا نلعب ذلك اليوم، بل نجمع الحجارة، نحمل الورد الذي نسرقه من الحدائق وقطع الخبز التي بحوزتنا للمقبرة، نُقسم أن ننتقم له، ولكل كلاب الحي الذين ماتوا غدرا.

 نأخذ حذرنا، ننقسم إلى كتائب صغيرة، إننا في حرب ضد السيارات اللعينة، نترقب المساء، نترصد السكينة، نختار الفريسة بعناية، وكلما مرت سيارة تشبه التي دهست كلابنا نرميها بالحجارة، لا نخطأ إلا نادرا، ونحن مستعدون للمواجهة، ولا نخاف أحدا.

أجره من يده ونواصل السير إلى طرف المدينة، حيث نسكن، المدينة التي تشبه إمراة فتحت ذراعيها الناعمة لشاطئ صخري حقير. منذ اليوم الأول عرفنا أننا سنتحول إلى حذاء مستعمل يُلقى به في ركن من أركانها النجسة، كل شيء في هذه المدينة، يجرك إلى الرداءة ...

نصل إلى الصخرة البعيدة، التي كانت فيما مضى، ملجأ أطفال الحي، الذين قل عددهم كحال الكلاب أيضا، هي الأن محاطة بالعمارات الآنيقة، التي تتحول ليلا إلى أكواخ دعارة، لها ثمنها، وزبائنها، وصخبها، وحراسها.

لقد أصبحت هذه المدينة نتنة، وهي تبتلعنا تباعا، نحن الذين كنا بعيدين عنها، تقترب منا بسرعة، وسوف تطحن ما تبقى، دون شفقة، أو رحمة. ضعوا لهذا الغول سورا، إكبحوا جماحه، دعونا هادئين"


______________________________________

(1) الملاح: هو اللقب الذي كان يطلق أو بالأحرى ما زال يطلق على الحي اليهودي بالمدن المغربية العتيقة، مثل الرباط و سلا , فاس، مكناس، مراكش، الدار البيضاء، الصويرة... ومايطلق عليه في بلاد الشام، مصر أو العراق حارة اليهود. وهو معروف بتعدد الآنشطة الإقتصادية به كالتجارة والحرف.

(2) البابوش : طبق مغربي شعبي يتكون من الحلزون والتوابل المختلفة.



  • 15

   نشر في 02 ماي 2015  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات

>>>> منذ 4 سنة
جميل جدا... في لحظة تساءلت... و هل هناك شعب آخر يأكل الحلزون مثلنا؟...لأكتشف في آخر المقالة أنه لااا... إنه شعبنا و فقط "المغرب" تحياتي.
2
واو ... جميلة هي كلماتك .. تضارب افكارك .. و وصفك لمغرب جميل .. و مميز ببساطته ..
انتقلت بنا في جولة نحو الطفولة ووصفت لنا ابعاد المدينة بدقة .. من سلبيات و إيجابيات ..
ابدعت حقا ..
1

لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !


مقالات مرتبطة بنفس القسم

















عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا