إرهاصات من وحي الإسبايس .. هُذاء عائدة من كوكب "أراكس" - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

إرهاصات من وحي الإسبايس .. هُذاء عائدة من كوكب "أراكس"

قراءة في رواية "كثيب" (Dune) لفرانك هربرت

  نشر في 18 يونيو 2022  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

عائدة لتوي من رحلة الضياع في صحراء كوكب "أراكس"، و أعترف الآن أني لم أعد سوى"فرمنية " ترتدي بدلة التقطير ، نحت أنبوب التقطير عميقا في خدها، وعمّت غمامة زرقاء بؤبؤعينيها ! أعترف أيضا أني أدمنت رواية "كثيب" كما يدمن الفرمن على مادة الإسبايس، وصرت مولعة بالماء وقداسة الماء، رغم أني قابعة في كوكب اسمه "الأرض" يهطل فيه الماء من السماء!

الرواية لعبقري يدعى فرانك هربرت، أؤكد على كلمة عبقري ، ذلك لأن بناء واقع مصطنع بهذه الكفاءة وبهذا الشكل المقنع فقط من محض الخيال، يعتبر عبقرية نافذة لا يحوزها إلا قلة من الناس.

تتحدث روايتنا عن المستقبل البعيد جدا وبالضبط في الألفية الحادية عشر بعد الميلاد، حين استطاع البشر السفر عبر الفضاء وغزو الكواكب الأخرى، حيث بنوا نظاما إمبراطوريا محكما بسلالة حاكمة وطبقة نبلاء ضمن نظام إقطاعي بحت.

السلطة يتقاسمها الامبراطور مع مجلس، لنقل أنه شبيه بالبرلمان، اسمه " مجلس اللاندسراد"، ونقابة تحتكر السفر عبر الفضاء، وشركة تصنع مادة الإسبايس الثمينة تدعى "تشوم"، وطبعا العديد من الصراعات بين النبلاء.

وتركز الرواية على صراع محتدم بين عائلتين نبيلتين هما آل آتريديز التي ينتمي إليها بطل الرواية "بول "، و بين عائلة آل هاركونن الأجلاف القساة الذين حكموا كوكب أراكس الغني بمادة الإسبايس بيد من حديد، وسعوا لإبادة سكانه "الفرمن" . ولا ننسى هنا الأطراف الفاعلة الأخرى كجنود "الساردوكار " أفراد الحرس الإمبراطوري الأسطوري الذين لا يقهرون، هؤلاء جعلهم الإمبراطور الباديشاه شادام الرابع يتواطؤون مع آل هاركونن لإبادة آل آتريديز.

كما لا بد من الإشارة إلى ساحرات "البني جيسريت"، مدرسة تدرب ساحرات بمهارات خاصة ونادرة، ينتهي بهن المطاف كزوجات أو حظيات لدى نبلاء الطبقة الحاكمة، هذه المدرسة تسعى من أجل هدف واحد، هو تغيير النسل البشري واستيلاد "الكويزاتس هاديراك": حاسوب بشري خارق من نوع ذكر يمكن أن يكون في عدة أماكن و عدةأزمنة في وقت واحد، في الماضي والحاضر والمستقبل ، ولديه قدرات الاستبصار الخارقة.

تنتقل مقاليد حكم أراكس إلى آل آتريديز ، وينتقل إليه الدوق ليتو زعيم الآتريديز وابنه بول وأم ولي عهده الليدي جيسيكا ( من البني جيسريت ) وكل حاشيتهم نحو الكوكب الصحراوي. وهناك يتعرضون لخيانة تحتم على بول ووالدته اللجوء إلى الفرمن في صحاري "أراكس" بعد مقتل الدوق ليتو ، وهناك يعانيان من مرارة الهروب والظروف البيئية القاسية على الكوكب، لكن الفرمن يحمونهما ويحولون بول إلى زعيم ديني تحت مسمى "لسان الغيب" أو المؤدب ، ويجعلون أمه كاهنة عليهم ( أم موقرة )، وهنا تبدأ المغامرات التي لايجب حرق تفاصيلها.

الرواية عموما ليست من نوع روايات الرابعة صباحا ، ففي بداياتها تمر الصفحات
الـ 400 الأولى رتيبة، استهلكها الكاتب في شرح طبيعة البيئة التي تحتوي أحداثها ، لكنها من النوع الذي يسبب إدمانا حقيقيا، لا يمكنك أن تتذوق الإسبايس دون أن تتوقف عن التفكير في تجربته مرة أخرى، هذا هو حال الرواية! والإسبايس هنا هو مادة كالتوابل تمنح متعاطيها قدرات استبصارية تسمح برؤية المستقبل ويستحيل من دونها السفر عبر الفضاء، تصنعها ديدان عظيمة تعيش في رمال أراكس، يسميها الفرمن "شي هولود" أو الصانعة، وهي عالية القداسة لديهم.

لكن ماذا عن الحياة على سطح أراكس ؟ بصراحة، وبعد ألف صفحة من الإسبايس برائحة القرفة اللاذعة، تخدرت حواسي وتماهيت مع الرواية وصرت أقدس الماء كما لم يفعل بشري من قبل، الوصف دقيق وخيالي، يجعل القارئ يحس بتلك الحرارة اللاذعة التي تلفح جلده، ويقطب حاجبيه أمام أشعة الشمس اللاهبة ، ويجره الفضول نحو دودة الإسبايس وأسرارها والفرمن ودقائق واقعهم وحياتهم.

"جسد الإنسان ملكه أما ماؤه فهو ملك للقبيلة "، هكذا يردد الفرمن دائما ! ولهذا هم يسارعون كل مرة إلى استخلاص مياه موتاهم في طقوس جنائزية مهيبة ! ليس هذا فحسب، هؤلاء المغلوبون على أمرهم الذين اختطفوا من كواكب كان الماء فيها يتدفق من النوافير، ليستعبدوا في أراكس، كوكب الصحاري الذي لا يرحم، ابتدعوا طريقة لتدوير مياه أجسادهم من دون أن يفلت جزيء بخار واحد لا من الأنفاس ولا من الجلد، عبر بدلات وخيم التقطير.

"صائدات الرياح" التي تجمع الرطوبة وتكثفها من الجو، و"جامعو الندى"، وكثير من الأفكار الرائعة التي ابتدعها فرانك هربرت في واقع الفرمن، كلها تجعل من هذه الرواية عملا أدبيا غير عادي. الأجمل من كل هذا أنه ركز بشكل أكبر على خلق شيفرات ثقافية خاصة بالفرمن ترتبط بشكل وثيق ببيئتهم القاحلة : كحلقات الماء التي تتزين بها الفرمنيات بدلا من المعادن النفيسة، والنظر إلى البكاء والبصاق على أنهما إشارتان مقدستان ، فليس بين الفرمن من هو على استعداد للتفريط بماء جسده بتلك السهولة..!

وعدا اللغات المصطنعة التي أوردها فرانك كـ"الجلاكية" و"التشكوبسا"، استطاع أن يخلق تعابير لغوية فريدة أراكسية المنشأ ، تنتمي للبيئة التي يستوطنها الفرمن كعبارة: "أعطيتك مائي" التي تشير إلى العهد الذي لا تراجع عنه، وكذا شتيمة " يا وجه الدودة". هذه التفاصيل لا يمكن أن تمر على القارئ من دون أن تنتابه حالة انبهار بهذا العمل الذي يضاهي الكمال.

هذا ماكنت أبحث عنه ، خلق بيئات كونية خيالية بكل أبعادها وخصوصياتها السياسية والثقافية والدينية والاجتماعية والتكنولوجية وحتى البيولوجية، فالفرمن يحملون عيونا زرقاء بالكامل جراء تعاطيهم للإسبايس، وكذا جلودهم قاتمة ومتغضنة وجافة بسبب قساوة البيئة على أراكس، كم هذا رائع ! فرانك المبدع لم يترك أي فجوة بهذا الخصوص..!

وإذا تعمقنا أكثر فلن يفوتنا الإبداع الجامح في وصف مختلف الأدوات والمركبات، كـ"المطراق" الذي يستدعي "الدودات الصانعة" في عمق الصحراء، بفضل وصف الكاتب صوت طرقه لايمكن أن يُنسى أبدا. وكذا "زحافات الرمال"، "طائرات الأورنيثوبتر"، "دروع الطاقة"، الخناجر العاجية المصنوعة من أسنان الديدان الصانعة، والكثير الكثير من الجنون والخيال الذي أغدق به فرانك هربرت على عوالمه المبهرة.

أهم ما في الرواية أنها تحاكي مرة أخرى جدلية الدين والسياسة ، ولكن بنوع من التحيز نحو الدين، و نحو الدين الإسلامي بالخصوص ، تأثر الكاتب بالثقافة الإسلامية كبير جدا، وواضح بشكل لا يمكن أبدا تجاهله، الكثير من الأسماء المستخدمة في الرواية أصولها عربية : ظفير حواط، لسان الغيب، ثرثارة، عالية ، حارة ، أصول .. الخ .. وفي ثقافة الفرمن هناك إحالات عديدة إلى الثقافة الصحراوية العربية، بل إن تجربة الفرمن مع زعيمهم الديني "بول" تبدو مستلهمة بشكل كبير من السيرة النبوية، حيث تبوأ البطل "بول" مقام "النبي" بين الفرمن الصحراويين، بعد نبوءات عديدة كانت تتحدث عن قدومه ، وإشارات ودلائل كان لابد أن يقدمها لهم ليقروه كنبي عليهم ، ناهيك عن الكتب التي تنقل أحاديثه وسيرته.

هذه الرائعة تتفوق أيضا في كونها رواية محترمة من الطراز الأول ، لم أقرأ رواية بهذا الاحتشام سوى لدى كتاب الأدب الملتزم لدينا في العالم العربي (على الأقل بالنسبة للكتاب الأول فهناك خمسة أجزاء متبقية). أما بالنسبة لروائي أمريكي فهذا يعتبر أمرا نادرا ولا يتكرر حدوثه دائما .

عدا أسلوب المترجم المتشنج الذي عانيت منه كثيرا ما لم يعجبني في الرواية رتابتها ونقص التشويق في منعطفات أحداثها ، فهي على الأغلب توطئة وصفية لبيئة أراكس، وللواقع السياسي والديني للحياة البشرية في ظل الإمبراطورية في ذلك العهد. كما لم أحب تلك الفجوات التي تخللت الحبكة وتركت فراغا سرديا كبيرا لا طائل منه. وأزعجني جفاف التصوير في اللحظات الحاسمة والفاصلة ، تصوير الكاتب لتلك المشاهد يعطي انطباعا بأنه مجرد " "منتات"، أي أنه مجرد مغتال تابع لأحد النبلاء عمله فقط ينحصر في دوره كحاسوب بشري يجمع كل المعلومات ويحللها ويعالجها ويعطي استنباطاته واستنتاجاته المنطقية بلا أقل درة من العاطفة.

هنات صغيرة لا تنتقص أبدا من روعة الرواية وفكرتها العجائبية، روعتها التي تكمن أساسا في الأثر الذي تتركه في عمق القارئ، يقال أن الكتاب الجيد هو الذي يثير فيك الأسئلة. أما هنا فالرواية الرائعة هي تلك التي تستفز فيك حاسة الفضول ، وتشرع أبواب الغموض أمام عقلك. 

"كثيب" أعادت رسكلة نظرتي إلى الأشياء والمفاهيم ، وأعادت سرد التاريخ بين عيني بطريقةمبتكرة غير عادية وغير مملة على الإطلاق.

لقد كانت وجبة دسمة بحق فتحت عيني "الاستبصارية" لتنظر بشكل أبعد وأعمق!

تعظيم سلام فرانك هربرت !! 


  • 1

   نشر في 18 يونيو 2022  وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا