يوميات كاتب في مركز المعلومات ( السيد محمد حبيب عواد)
نشر في 14 أبريل 2017 وآخر تعديل بتاريخ 30 شتنبر 2022 .
الحلقة الرابعة السيد محمد حبيب عواد
مر الأسبوع الأول ، مرور البرق ، و ألف شيئا فشيئا الجو العام في مركز المعلومات ، و كانت متابعته لما يحصله في العمل حينما يعود إلى المنزل ، تساعده كثيرا في الإستيعاب و التحصيل ..
كانت أوقات العمل تبدأ في الساعة التاسعة إلى ما يقارب السادسة خلال الأسبوعين الأوليين ، في ذلك الصباح ، أتى يعقوب إلى العمل راجلا كعادته ، كان يخرج من منزل والديه على الساعة الثامنة ، و يسلك طريق ثانويته التي فيها كان تحصيله ، التي تتوسط شارع عبد اللطيف بن قدور المصنف ، كان مجرد اقترابه من الثانوية يشعل في دواخله عوالما من الحنين و الذكريات لا تكاد تفتر ، إلا لتستيقظ مرة أخرى ، بل إنه في كل يوم كان يقف أمام أبوابها العتيقة ، و ينظر من شباكها إلى الداخل ، فيحس بنفسه يعود القهقرى سنينا إلى الوراء ، تماما كالفلاش باك الذي يستعمله صناع السينما لتصوير الذكريات ، هنا .. حرى مع أقران له .. قد ضم بعضهم الثرى .. و هناك كان يفر من أستاذ له عانى من شغبه ، و هنالك .. وقف مع جمع غفير من التلاميذ رافضين الدخول للتحصيل ، مرددين جملته التي كانت تستولي على شغاف قلبه :
يا صدام يا حبيب ، دمر دمر تل أبيب !
هذه الثانوية قضى بين أسوارها ، أحلى أيام عمره على الإطلاق ، فزيادة على أنها لم تك تبعد من منزل والديه إلا بخمس جقائق مشي ، كانت هي المهد الأول لكتاباته المراهقة ، و رسوماته التي يخجل من أن يكشفها للآخرين ، اعتقادا منه أنها ليست في مستوى الإبداع .. كانت هذه الثانوية الحبيبة ، مكمن الأسرار ، و مجمع الحب ، و بداية الطريق ، في مسار الآداب .. إيه كيف أن السنون تجري كما السحاب تجر معها كل شيء جميل ..
و إنه ليذكر أنه في يوم استجمع كل قواه ، و دخل مع التلاميذ إلى ثانويته ، بعد ثلاث عشرة سنة من مغاردرتها ، فأحس بوحشة إلى جانب حنينه ، ذلك أنها أصبحت ثانوية مختلطة ، بعد أن كانت ثانوية للذكور فقط ، و الحق أن حمد الله كثيرا أنه مر في هذه الثانوية حينما كانت مخصصة للذكور فقط .. كان إحساسا جميلا جدا ، أن تدرس في مكان مخصص فقط للذكور ، لا اختلاط ، و لا فتنة ، و لا محرمات ، كانت فترة جميلة ..
حينما دخل إلى بهوها ، لمح من بعيد السيد زبيدة .. من بعيد ، لمحه الرجل ، كان الشيب قد غزا جميع رأسه ، و احتلت التجاعيد وجهه ، ما إن رآه السيد زبيدة حتى ضمه إليه و التزمه ، دهش يعقوب من الرجل .. كيف يذكره بعد كل هذه السنوات .. فقال له مخاطبا ..
سيد زبيدة ، هل تذكرني ؟
ـ طبعا سيد يعقوب .. كيف أنسى أحلى الأيام ؟
ـ أحلى الأيام ؟ يا رجل قل كلاما غير هذا ..
ـ أقسم لك يا سيد يعقوب ، أن جيلكم ،و ما قبله كان أفضل الأجيال التي مرت علي خلال مسيرتي
ـ شيئ جميل أن أسمع هذا منك !
ـ أين قذفت بك الدنيا أيها الشاب ؟
ـ ذهبت للدراسة في ألمانيا ، درست الصحافة و الإعلام ، ثم عدت أدراجي
ـ جميل جدا هل أتيت لزيارتنا ؟
ـ نعم ، أردت أن أزور هذا المكان الحبيب إلى قلبي ..
ـ تفضل و جل كما تريد ..
ودعه ، و دخل ، و كان كلما خطا خطوة ، كلما رجع إلى الوراء سنونا ، زار أقسامه التي فيها حصل ، و ساحاتها الجميلة .. كل شيء فيما ها هنا جميل ، أم تراه هو الحنين .. قد كانت جميلة فعلا ..
واصل سيره نحو مقر عمله ، هذه المدينة الجميلة في عينيه ، الوحشية في عيني من لا يعرفها حق المعرفة ، تحتل في قلبه مكانا كبيرا ، الدار البيضاء ، مدينة المدن ، تعلق بها قلبه ، كيف لا و هي مولده ، و مراضعه و مراتعه و صباه ؟ .. وصل إلى مكان عمله قبيل التاسعة بقليل ، و كان قد حصل قبل يومين على بطاقة ممغنطة يمكنه بها الولوج إلى العمل ، و فتح الأبواب الممغنطة بدون الحاجة إلى الإستعانة بأحد .. دخل ، و قصد مركز المعلومات و حيا زملاءه في العمل ، و كان لا يزال يجلس إلى جانب السيد عادل الرئيس يتعلم منه كل ما استشكل عليه من أساسيات عمله ، و كان قد بدأ بالفعل في التعايش مع مواد عمله و أدواته ..
كان الكل في مركز المعلومات مستعد لمد يد العون للآخرين بدون تأخير ، حتى في حالة المشاكل المستعصية التي تتطلب سرعة في البديهة ، و اجراء اتصالات كثيرة ، كان كل أحد يعين الشخص الذي أخطر بالمشكل ، بإجراء الإتصالات اللازمة .
خلال انشغالهم بالعمل ، دخل من الباب شخص ، لم يره من قبل .. سلم على زملائه الأخر ، بطريقة تشير إلى أنه كان غائبا عن العمل لمدة ليست بالقصيرة ، كل منهم يلتزمه ، و يصافحه ، حتى اقترب من يعقوب و زميليه .. فجاء السيد عمر مهران ، و خاطبه قائلا :
ـ أهلا سيد حبيب ، أقدم لك زملاؤنا الجدد في مركز المعلومات المكلفون ببداية المشروع الألماني :
السيد يعقوب ، السيد عز الدين ، و السيد ملاحي ..
صافحهم بأدب ، و اتخذ مجلسه في مكانه ، كان السيد محمد حبيب عواد شخصا جسيما ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، أدهم اللون بلحية ضاربة إلى الطول عريض المنكبين ، ذو عينين مائلتين إلى لون العسل ، و صوت جهوري ، بل كان المرء ليحس قوته حتى في مصافحته ..
كان يعقوب مشذوها ، لأن السيد حبيب عواد كان يشبهه في الكثير من الأشياء ، أقلها البنية الجسمانية ..
من المزايا التي أعجب بها يعقوب في مكان عمله الجديد ، أن السيد مهران الذي كان يدير هذه المجموعة كلها ، لم يكن من النوع الذميم في التعامل مع الأشخاص الذين كان يديرهم ، فكان أعضاء مكتب الإتصال ، يناقشون المواضيع الكبيرة ، و يدخلون في حوارات قد تصل حد المواضيع الفلسفية ، و لم يكن السيد مهران ليعارض ، و لكن بالمقابل ، كان كل أعضاء مكتب الإتصال بدون استثناء يقدرون المسؤولية الملقاة على عاتقهم ، و يتعاملون بحرفية شديدة مع كل اتصال ، أعجبه ذلك جدا ، و راقه كثيرا ، أن يكون لمناقشة المواضيع ، و الحوار مكان في مركز المعلومات !
و إنه ليذكر أنه في ذلك اليوم كان النقاش يدور حول خلق الإنسان ، و آدم عليه السلام ، فقال السيد حسن عامر :
ـ وصف خلق الإنسان في القرآن وصف معجز .. كيف أن الله أمر الملك جبريل عليه السلام ليأتي بالطين من الأرض و شكله ، ثم نفخ فيه من روحه ، و أمر الملائكة بالسجود له
فأجابه السيد حبيب عواد : إن لي رأيا آخر فيما يخص هذه المسألة ، لإأنا أؤمن بكلام آخر لبعض العلماء ، أن آدم ولد من أب و أم ، و لم يكُ طينا ..
صدم هذا القول يعقوب حتى أخرجه عن صمته الذي كان يداري به شوقه إلى المشاركة في هذا الحوار الماتع و لكنه كان يستحيي فقال :
ـ كيف سيد حبيب ؟ هذا يعارض صريح القرآن !
ـ أنا أخبرك كيف ، هناك من العلماء يفسر آية : كما أنشأكم من سلالة قوم آخرين ، أن آدم نفسه خلق من سلالة الإنسان ، غير أن أباه لم يكن بذكائه و رجاحة عقله !
ـ ولكن هذا القول قول شاذ جدا ، فماذا تقول عن آخر : فلما سواه و نفخ فيه من روحه .. الآية ؟
ـ هذه آية توضح سجود الملائكة لآدم ، و أن إبليس أبى السجود له
و كان السيد الملاحي يؤيد السيد عواد طيلة فترة النقاش لأنه وافق منهجيته التي اعتبرها يعقوب منهجية تأويلية محضة ، فقد كان السيد ملاحي يؤول كل شيء معلوم من علامات الساعة الكبرى مثلا ، و يعتبر أن خروج الشمس من المغ رب آخر الزمان و اقفال باب التوبة ، هو مجاز لدخول الغرب كله في الإسلام ، و أن الدجال علامة على الشر ، و أن يأجوج و مأجوج هم أهل آسيا ، إلى ما يشبه ذلك من الأفكار التي اعتبرها يعقوب أفكارا تجانب الصواب حسب مفهومه و اعتقاده للأمور
استحيى يعقوب أن يكمل الجدال ، و كان عيب السيد حبيب عواد الوحيد في النقاش أنه يتعصب لرأيه قليلا ، مرتفعا به صوته ، حتى أنه في بعض الأحايين ، كان السيد يونس الزميلي يدق زجاج مكتبه الملاصق لمركز المعلومات ، في إشارة إلى ارتفاع صوت المناقشين ! و على العموم كانت الأشياء تنساب انسياب المياه بعد انحباسها خلف حجرين ، لا يكاد النقاش ينتهي حتى تعود المودة و الألفة إلى قلوب زملاء العمل ..
كانت السيدة الإدريسية ، الأنثى الوحيدة بين كثير من ذكور في مركز الإتصال ، و كانت في بداية الأمر صموتة ، بحذر ملحوظ في التعامل مع الزملاء الجدد ، كانت فتاة ذكية ، قوية الملاحظة ذات شخصية قوية تفرض احترامها على الآخرين فرضا ، و كان يبدو من امتلاء بطنها ، أنها حبلى في الشهور الأولى ، و إن يعقوب ليذكر في مرة ، أنه سألها إمعانا في القضاء على تلك الوحشة بينه و بينها كشخص جديد على مركز المعلومات :
ـ هل لديك أولاد سيدة إدريسية ؟
ـ في الطريق .. قالت السيدة ادريسية بابتسامة خافتة
ـ خمنت أنك حامل نعم ، أسأل الله أن يمر حملك على خير
ـ شكرا جزيلا لك ..
و كانت السيدة الإدريسية شخصا مرحا على الرغم من حذرها في التعامل معهم في البداية ، دلت شخصيتها القوية على جانب خفي سيظهر مع توالي الأيام ..
-
يعقوب مهدياشتغل في مجال نُظم المعلومات .. و اعشق التصوير و الكتابة