حين قصد المفكر علي شريعتي زيارة القاهرة وراح يطوف بها ليشاهد الأهرامات التي عدت من عجائب الدنيا ظل الدليل الذي كان يرشده ويشرح له تلك الحضارة يحدثه عن الأهرامات والإبداع في صنعها والطاقات التي فنيت من أجلها ،وفي أثناء جولته تطلع شريعتي فإذا أكوام من الحجارة قد صفت على مقربة من الأهرامات حينها سأل المرشد الذي يرافقه فأجابه بأن هذه مقابر جماعية كان يلقى فيها العبيد حين يهلكون !! وزاد أنه أخبره أنه ومن شدة مشقة العمل على هؤلاء الأشخاص كان يهلك مئات منهم يوميا فيلقون في تلك المقابر ويُأتى بغيرهم كي يستكملوا العمل ..
تساءل شريعتتي حينها كم من العبيد هلكوا في مقابل بناء قبر عظيم لفرعون من فراعين مصر والتاريخ !!
إن المتطلع بدقة إلى حدث كهذا يعلم عظم الجرم الذي ارتكبته بعض الحضارات المزعومة مذ بدء الخليقة وحتى يومنا هذا ،حين كان فرعون مصر يتطلع إلى بناء مقبرة سيخلد ذكره في التاريخ كان ينظر إلى القيمة المادية إلى الشيء الملموس الذي سيكي عنه التاريخ على صفحاته،ويبقى العبيد ،يبقى الإنسان الذي لولاه لما وجدت مثل هذه المشيدات على الهامش ،لا يشار إليه ولو بسطر أو كلمة عرفان حتى تكتب على جدران المعابد مثلا ..
إن كل حضارة لم تعط للإنسان قدره هي من أشباه الحضارات ،أراد المعظمون لها أن يشابهوا الحضارات فتطلعوا إلى الناتج النهائي الناتج المادي حتى وإن كان سيفني في خضمه الإنسان الذي يجب أن يكون مناط كل حضارة أو ثقافة ناشئة وأولى أولوياتها على طول الطريق .
ما الذي قد يجعلنا ننخدع ؟
كثيرون هم من تخطفهم مظاهر خداعة وتقدم عمراني أو اقتصادي ربما ،فيظنون أن أرباب ذاك التقدم هم أهل حضارة يستحقون التقدير وربما التقديس حتى ،والحقيقة أنه ليس كل إنتاج مادي هو وليد حضارة حقة ..فالحضارة كما اتفقنا تضع الإنسان وقيمته نصب أعينها بل ولنقل أنها تضعه موضع القداسة ..إذا فليس كل زينة خارجية وبهرجة خاوية هي دليل على حضارة عظيمة ..
الواقع أن كل رقي ظاهر لا يضع نصب عينيه الإنسان ويقدس مكانته ويسعى أن يكون كل شيء مسخرا لخدمته لا أن يكون هو (الإنسان) مسخرا لخدمة أشياء أخرى مادية هو هباء ..
إن الدول التي شُيدت على عرق ودماء صنوف من العبيد ،كالهنود الحمر والأفارقة السود الذين استُنزفوا في حرث الأرض والزراعة وإقامة إرث مادي ،حققت تقدما باديا حقا لكنها خواء ،فقد الإنسان القديم بل والحديث حتى في طياتها قيمته ،القديم استنزف فعاش بائسا محروما والحديث صار محض وسيلة لإنتاج المزيد أو لتحقيق عائد مادي أكبر ،يعود على الدولة قطعا ،صار الإنسان فيها آداة لتحقيق مزيد من الإنتاجات المادية قبل أن تكون هذه الإنتاجات والأشياء آداة لتحقيق سعادته ورفائه !!
نهاية ،ربما علينا أن ننظر إلى التقدم من زاوية أخرى ونطلع إلى الحضارة بمنظور سليم بمنأى عن الناتج المادي لها ،فليست كل الإنتاجات المادية هي وليدة حضارة حقيقية لكن الحضارة الحقيقية يصير بمقدورها صنع إنتاج مادي ملموس وإن لم يضاهي في كل الأوقات نتاج حضارة زائفة .
-
Heba Hamdyالكتابة صرخة ،نطلقها بعد أن تروض الحياة أحبالنا الصوتية على الصراخ المكتوم ...