ينادي منادٍ في أطراف الإسكندرية يبيع تذاكر ما "عرض الفرنسيس في قهوة زواني ..عرض الفرنسيس في قهوة زواني" فيعقب هذا النداء توافد العشرات نحو هذا المقهى الذي سرعان ما إزدحم بالناس وعلى باب ورقة مكتوب عليه بالفرنسي ((عرض موليير)).
يجلس من يجلس ويقف من يقف ويتكدس الواقفون وكلهم ينظرون إلى قماشة بيضاء كبيرة ملصوقة في الحائط وأمامها جهاز ضخم ينتظر الإشارة .. هدأ الوضع فور أن إنخفضت إضاءة المكان وإختفى البياض من على القماشة وحل مكانها صوراً متحركة لأناس بزيّ العمّال وهم يخرجون من مصنع وبعد ثواني إنطفأت الشاشة وحلّ مكانها صور أخرى في مكان أخر وهكذا .
كلما تنتهي مقطوعة صورية وأخرى نرى إنطباع جديد على وجوه الناس الذين خافوا كثيراً من القطار القادم نحوهم وإنبهروا أكثر بكل هذا ومع ذلك لم يخطر على بالهم أن تاريخ الفن الحديث قد بدأ منذ هذا التاريخ :أوائل يناير 1896
...
هذا ليس مقالاً عن تاريخ السينما ولكن كان لا بد من أذكر هذه الواقعة حتى يعلم الجميع أن السينما المصرية ليست جديدة العهد وسط فنون السينما فهي الأجدر بصدارة العالمية والمجد بعد موطنها فرنسا ولكن الجدارة ليست بالتأكيد مرادفاً للواقع!
لا أنكر على الإطلاق أن لدينا كل مقومات الخيال مثلنا مثل الجميع ,ويا للأفكار التي تُعرض يومياً على المخرجين و المنتجين هنا وهذه الأفكار يتم تصفيتها من قِبل فلتر إسمه ((الإمكانيات الفنية ضعيفة)) وفي النهاية يخرج لنا الأفكار التافهة و الأفكار الجيدة التي لن تتعرض لتكنولوجيا السينما بأي تعكير وصدقاً ربما تأتي السنة والسنوات اللاحقة ولم ينتبه أحد لهذه الأفكار الجيدة ومع مرور السنوات تصبح الأفكار التافهة هي الأبقى والأضمن.
لماذا إذن ؟ ((إشمعنى يعني الأفكار التافهة )) ؟
الأمر يبدأ من خلال شخص ما جلس وقال ((أنا عايز فلووس كتيييييييير ..أعمل إيه ؟)) فرد عليه أحدهم ((إعمل أي فيلم وإستغل شعبية المطرب حمادة كخة وطلعه يغني وجيب الرقاصة فراولة المحشية وترقص )) هرش الأول في راسه وقال ((هما بيحبوا يسمعوا المطرب حمادة كخة فعلاً ...ماشي )) وفعلاً سيقوم بإنتاج الفيلم وطبعاً من يشاهد الفيلم هم محبون المطرب الشعبي حمادة كخة وعند مشاهدتهم للفيلم ومشهد حمادة كخة وهو يقّبل فراولة يرون أنه مشهد عظيم عندهم فيخلق عندهم وعي بأن تقبيل البنات شيء طبيعي وعادي ومع الوقت يصبح التحرش شيء يومي وطبيعي وعادي وقشطة يعني . وهنا تحدث المعادلة التالية :
كعادة أي فن فهو يؤثر في وعي الجماهير ومن ثم يتأثر بدوره من مردود تأثيره وهكذا فتصبح دائرة كاملة لا يقطعها سوى أن يتغير الإتجاه نحو دائرة جديدة تخلق تأثيراً مضاداً.
ونستطيع من خلال المعادلة السابقة أن نفهم ونرى أن بعد ما المنتج إياه أخرج فيلم حمادة كخة يقوم بعدها بعمل فيلم أخر من بطولة الممثل ((حنطور)) وتدور الدائرة ومع مرور الدائرة يُخلق وعياً للشباب لا نُحسد عليه.
قلت منذ قليل أن السينما تؤثر في وعي الجماهير ..كيف تؤثر وهي مجرد (صور متحركة) في عقول الشباب ؟ قد أكون إقتربت من الصواب إن قلت أن لعقلنا مناعة وهذه المناعة تضعف كلما حدثت بعض السلوكيات أبرزها توجيهات إعلامية سياسية و تعرض الشباب لأنواع أخرى للفنون وهنا تظهر القدوات ((مثلما فعل معجبي المطرب حمادة كخة عندما سمعوا أن سيمثل في فيلم )) وإنحطاط الوعي الثقافي وهذا يؤثر بدوره ويتأثر بالوعي الفني.
ما الذي سأحاول إيصاله من خلال هذا المقال ؟؟
أريد أن أشرح حجم المأساة التي نحن فيها وأريد أن أشرح أن الموضوع لا يتوقف فقط عند ((الإمكانيات الفنية ضعيفة )) بل هناك عقولاً يافعة دُمرت بالسنجة والبلطة والمطاوي والمخدرات ..وأستطيع أن أشير بأصبع الإتهام إلى السينما في مصر تحديداً.
والحل ؟
كل من يحب فن السينما ويقدّس دور الفنون عموماً عليه أن يساهم في إنتاج أفلام وفنون تحترم عقولنا سواءً أن كنت مخرجاً أو ممثلاً أو منتجاً ..أما إن قررت أن تكون مجرد مشاهد فأعتقد إن أعظم ما يمكن فعله هو أن تركز على النماذج الإيجابية النادرة التي يتم إنتاجها لا أن تقاطع السينما العربية فأنا أحلم بسينما مصرية خاصة وعربية عامة يدخلها فئة الشباب الذين قالوا ذات يوم ((إحنا مبنشوفش أفلام عربي ..بنشوف أجنبي بس)).
وبدوري سأحاول قدر إستطاعتي أن أوجه فن السينما إلى الطريق المحترم الراقي حتى لو واجهت – وهذا حتمي- معارضات وأقاويل على منوال .
" وإنت مالك ؟ الناس عايزة كدة !"
-
هيثم ممتازبين الجهل والمعرفة شعرة واحدة ,وهي القراءة.