حين كنا قُراءً - مقال كلاود
 إدعم المنصة
makalcloud
تسجيل الدخول

حين كنا قُراءً

  نشر في 18 يونيو 2023 .


تسلبنا التكنولوجيا الحديثة كل شيء: هواياتنا المتعددة خارج البيت، وعفوية الحديث في التاكسي وقرب نبع الماء، وحرصنا الشديد على صندوق الرسائل.

كل زر قميص خلفه حكاية. وتحت إبريق الشاي منديل زيّن رأس الجدة لسنوات، قبل أن تحيله ضربات المقص خرقا متساوية الطول والعرض.

هنا جرّة ماء تعثر حاملُها، فالتأمت بلمسة ساحرة لتحضن جذور نعناع أو بقدونس. و تحت شجيرة التين جلد شاة أو خروف يفترشه السامرون في ليالي الصيف الدافئة. كانت الحياة وئيدة الخطى، حيث لا يكبر الصبيان، ولا يشيخ الآباء إلا بعد عمر طويل.

يدخل الكتاب، أي كتاب مهما صغر شأنه، كالضيف إلى غرفتنا. نتحسس غلافه، ونشم رائحة الورق التي تنفذ كالعطر إلى خياشيمنا الصغيرة. لكل كتاب رائحته، وزفراته المتعبة من اللاهثين خلف حروفه.

ماذا تقرأ هذه الأيام؟!

سؤال غيّبته حواسيبنا، وهواتفنا المحمولة، وشاشاتنا المسطحة عن الدردشات اليومية. يتباهى أحدنا بكتاب اشتراه أو مجلة أهديت إليه، لتبدأ رحلة استعطاف من لدن قراء لا يملكون عادة سوى شغفهم اللامحدود.

يفتح الخيال أبوابه لكل كتاب. لا فرق بين رواية أو مسرحية، أو تفسير للأحلام والأبراج. أسفار حالمة تطوف بنا كل ليلة لنغذي السطور بمشاهد ولوحات من إبداعنا.

أذكر أن "أيام" طه حسين صارت أيامنا، نقتفي خطى الصغير إلى الأزهر، ونؤيد تبرمه من شيوخ حفظوا الكلمات وضيعوا المعاني.

وأما الحكيم فكان ابن نكتة وهو يصف يومياته كنائب في الأرياف، ويحول عالم الجريمة في قرى مصر النائية إلى خوارزمية مذهلة من الذكاء المتغافل.

بينما يأخذنا العقاد إلى جبروت فكرة تستحثنا لتكرار الفقرة مرة أو مرتين حتى يستوي المعنى في أذهاننا، خاصة عبقرياته التي أوجزت المسافة بين ماضيهم وتقلبات حاضرنا.

كم قرأت؟

لم يكن السؤال بالمعنى الذي تراهن عليه اليوم مسابقات تنتسب لضجيج الإعلام، وإنما كان تقديرا للمسافة بين قارئ وآخر لتعزيز الهمة، والمشاركة في رهان المستقبل. مستقبل يؤمن آنذاك بأن مسار الأمة ومصيرها بيد حملة الكتاب، والقائمين على شؤونه وشجونه.

كانت القراءة طقسا يوميا غير معتدل. لكل قارئ عاداته وترتيباته الخاصة لبدء الكتاب وإنهائه. ولكل كاتب قراؤه المتراوحون بين معجب ساذج، وفاحص مدقق. وبين هذا وذاك يبني الكُتاب سلالم الصعود إلى مجد الحروف المتألقة.

قرأنا حين لم يكن للكتاب منافس شرس..

وقرأنا حين كانت دور النشر تحمل همّ الرسالة والقيم، وتؤمن بالفرق الحاسم بين ترويج الكتب، والدعاية لعلب الشكولاتة.

وقرأنا حين كان الناقد يصحو قبلنا كل يوم، ليضيء لنا السبيل إلى جادّة القراءة الهادفة والمثمرة.

وقرأنا حين كان المسؤولون يدركون الفارق بين حجر الزاوية، وحجر ملقى في الشارع، فيقفون سدا منيعا أمام نزوات العبث بالمدرسة والمكتبة.

حينها فقط كنا قُراءً!


  • 2

   نشر في 18 يونيو 2023 .

التعليقات


لطرح إستفساراتكم و إقتراحاتكم و متابعة الجديد ... !

مقالات شيقة ننصح بقراءتها !



مقالات مرتبطة بنفس القسم













عدم إظهارها مجدداً

منصة مقال كلاود هي المكان الأفضل لكتابة مقالات في مختلف المجالات بطريقة جديدة كليا و بالمجان.

 الإحصائيات

تخول منصة مقال كلاود للكاتب الحصول على جميع الإحصائيات المتعلقة بمقاله بالإضافة إلى مصادر الزيارات .

 الكتاب

تخول لك المنصة تنقيح أفكارك و تطويرأسلوبك من خلال مناقشة كتاباتك مع أفضل الكُتاب و تقييم مقالك.

 بيئة العمل

يمكنك كتابة مقالك من مختلف الأجهزة سواء المحمولة أو المكتبية من خلال محرر المنصة

   

مسجل

إذا كنت مسجل يمكنك الدخول من هنا

غير مسجل

يمكنك البدء بكتابة مقالك الأول

لتبق مطلعا على الجديد تابعنا